فوكو: المراقبة والمعاقبة.

فوكو: المراقبة والمعاقبة(3).
أماني أبورحمة
 عملت الحداثة الغربية على إحلال العقل الأداتي محل الدين والكنيسة، وجعلت من وظائف هذا العقل تحقيق أعلى درجات الضبط والسيطرة من خلال مفهوم الإدارة الحديثة. يشرح فوكو في كتابه (المراقبة والمعاقبة) آليات ودلالات التحول في التعامل مع المجرمين والسجناء من العصور الإقطاعية إلى العصر الحديث. إن الانتقال من المعاملة القاسية والوحشية للمجرمين والسجناء في حقبة المجتمعات الإقطاعية إلى المراقبة والضبط في الحقبة الحديثة، يشير إلى تحول سلطة القوة إلى الطابع المتخفي والغير مباشر، بحيث لم يعد السجناء يعرفون متى وكيف تتم مراقبتهم من قبل الحراس. وبدلا من القمع القسري يتم العمل على تغيير وتبديل وعي السجناء وسلوكهم ليبدؤوا هم بتنظيم تصرفاتهم بأنفسهم من خلال الكبت. فتقوم إدارة السجن بتدريب السجناء على ما يعرف بالسلوك الاجتماعي الصحيح واللائق والمقبول، ويتم تأهيل السجين ليلتحق بالمجتمع ويتحول إلى طاقة بشرية مضافة يتم استغلالها اقتصاديا وسياسيا لخدمة السلطة وخطابها. ويظل السجين تحت تهديد الاعتقال والعودة إلى السجن في حالة رفضه الامتثال إلى خطاب السلطة. إلا أن هذا التهديد يأخذ طابع متخفي وغير مباشر وينتشر بوصفه ضوابط سلوكية داخلية يمارسها الفرد على نفسه. ومن مظاهر الضبط الذاتي عند الفرد البحث عن اعتراف الجماعة بكيانه المادي والمعنوي، والشعور بالذنب، والمراقبة الشعورية على مستوى الوعي واللاوعي والتي تعرف بالضمير. ولهذا يصف فوكو المجتمعات الحديثة بأنها مجتمعات الانضباط، ومحور السيطرة والضبط فيها هو الجسد. لقد أخضعت القضايا المرتبطة بالجسد مثل الرغبة الجنسية واللذة إلى أقصى درجات الضبط والمراقبة والتقنين، ولم يعد الفرد حرا في أن يفعل ما يشاء بجسده تحت ذرائع مختلفة مثل الدين والمصلحة العامة. وبذلك يتحول الفرد إلى كائن خطابي مبرمج بخطاب الثقافة السائدة في بيئته ومسكونا بعدة أنساق خطابية تبرمج وعيه وتصوغ إدراكه. يسعى الفرد دائما إلى التطابق مع الجماعة وتشكيل ذاته على الصورة التي تتعارف عليها وتمنحها دلالات إيجابية. ففي الحقبة الإقطاعية كانت صورة الفرد المتفوق تعتمد على النسب والعائلة والمكانة التي تحتلها بالنسبة إلى التاج الملكي، وفي الحقبة الصناعية والمجتمع البرجوازي تم تفريغ قيم النسب والعائلة من دلالاتها الإيجابية ومنح تلك الدلالات لقيم الإنجاز والعمل والكفاءة، وفي المجتمع ما بعد الصناعي تحولت تلك الدلالات إلى القدرة على الاستهلاك.


و يتفق فوكو مع ألتوسير على أن الخطاب يقوم بإنتاج آليات يمارس من خلالها الهيمنة، وتتخذ هذه الآليات شكل المؤسسات القانونية والعلمية والصحية والدينية والعسكرية. يشرح المفكر الفرنسي اليساري لوي ألتوسير في مقاله الشهير (الايدولوجيا وأجهزة الدولة الإيديولوجية Ideology and Ideological State Apparatuses) المنشور عام 1970 كيف تقوم الدولة بإنشاء أجهزة متعددة ومتنوعة للدفاع عن أيديولوجيا السلطة وتكريسها، وتقوم هذه الأجهزة بممارسة وظيفتها بشكل خفي وغير مباشر. توضح الباحثة ديان ماكدونيل في كتابها (نظريات الخطاب Theories of Discourse: An Introduction) أن الدول الرأسمالية الحديثة مثل بريطانيا وفرنسا تعتمد على مؤسسات مثل الكنيسة والمدرسة والإعلام والنظام القضائي والشرطة والجيش والمستشفيات والمصحات العقلية ونظام الحزب والنقابات المهنية في فرض هيمنة الخطاب الرأسمالي الحديث وضمان استمراريته وثباته. ولهذا عكف فوكو على دراسة دور المصحات العقلية والمستشفيات والسجون والمدرسة في الحقب المختلفة من تاريخ المجتمعات الغربية. فالمستشفيات والمصحات العقلية وظفت لحجب صفة العقل عن الخارجين على سلطة الخطاب المهمين، والسجون والنظام القضائي يعمل ضمن آليات القمع والمنع وإعادة التأهيل، والمدرسة تعمل على آليات احتكار المعرفة وإعادة إنتاجها ضمن نفس الشروط والضوابط المسموح بها . وتحولت النظرة إلى الجنون من كونه مرض عقلي فيزيائي إلى اضطراب سلوكي ناتج عن التوتر الحاصل بين الوعي الفردي والوعي الجمعي الخاضع لخطاب السلطة، ويتم معالجة هذا الاضطراب عن طريق علميات إعادة برمجة الوعي بما يتوافق وطبيعة ذلك الخطاب كي تزول مظاهر التوتر، ويعود الفرد ليكتسب صفة العقل ويوصف سلوكه بكونه سوي ومقبول.

تعليقات

المشاركات الشائعة