فوكو: بين الوجودية والبنيوية وما بعد البنوية

أماني أبو رحمة.
جاء جهد ميشيل فوكو الفلسفي ليدعم سعي فلاسفة البنيوية إلى تقويض الفلسفة الوجودية وتعطيل فكر سارتر الذي طبع الثقافة الفرنسية بطابعه في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد هاجم سارتر فكر فوكو في إحدى المقابلات وقال "إن الحفاوة التي قوبل فيها كتابه [يشير سارتر إلى كتاب فوكو "الكلمات والأشياء"] تدل، بما فيه الكفاية، على أن الناس كانوا بانتظاره. والحال أن الفكر الأصيل حقا، لا يجد قط أحدا بانتظاره ". لقد أعلنت البنيوية نهاية الوجودية بوصفها من الفلسفات الإنسانية التي أصبحت خارج دائرة النقاش الفسلفي منذ الستينيات من القرن العشرين. وظهر ذلك واضحا في كتابات الفلاسفة الفرنسيين الجدد الذين أصبحوا من أعلام البنيوية وما بعد البنيوية.
وشملت كتب فوكو التي حملت النزعة البنيوية (المرض العقلي وعلم النفس) الصادر عام 1954، وهو العمل الذي تنكر له فوكو فيما بعد، و(تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي) الصادر عام 1961، وهو أطروحته لنيل درجة الدكتوراه وقد لاقى ترحيبا كبيراً في الأوساط الأكاديمية والثقافية الفرنسية، و(ولادة العيادة) الصادر عام 1962، و(الكلمات والأشياء) الصادر عام 1966 والذي عكس اهتمامه الكبير بالبنيوية.
ولكن الكتاب الذي اظهر فيه فوكو تحوله عن البنيوية كان (حفريات المعرفة) وقد صدر عام 1969. وفيه تحول فوكو من النسق إلى الخطاب. وأهتم بدراسة العبارة ووظيفتها في الخطاب وشروط إنتاج المعنى في مختلف البنى الخطابية. وقد جاء هذا العمل بعد انتفاضة الطلبة عام 1968 والتي أيدها فوكو رغم أنه لم يكن متواجداً في فرنسا حينها. يلتقي فكر فوكو في هذا العمل وما تلاه من كتابات مع الخصائص الفكرية والثقافية المميزة لتيار ما بعد الحداثة. بدأ فوكو بالبحث عن الاختلاف وليس التماثل والتجانس في بنية الخطاب وأخذ يدرس كل ما هو هامشي وعرضي وتافه في الممارسات الثقافية للحقب الحضارية المختلفة وهو ما أطلق عليه (الحدث الآركيولوجي). تمحورت كتابات فوكو حول قضايا كانت بعيدة كل البعد عن مجالات البحث الفسلفي التقليدي. فقد تعلقت اهتماماته بالجنون والمصحات النفسية والمستشفيات والإجرام والمجرمين والسجون والجنس وموقعه واشكالياته الثقافية والحضارية. وبعد (حفريات المعرفة) كتب فوكو (نظام الخطاب) عام 1971، و(المراقبة والعقاب) عام 1975، و(تاريخ الجنسانية) ذلك العمل الضخم وغير المكتمل بسبب وفاته عام 1984، والذي صدرت منه ثلاثة مجلدات (إرادة العرفان) و(استخدام اللذة) و(العناية بالذات)، والذي يعد عرضا زمنيا لأشكال السلوك الجنسي عبر الحضارات الغربية.
ومع التحول بعيدا عن الفكر البنيوي أخذت بعض المصطلحات تكتسب دلالات مغايرة في كتابات فوكو عما كانت تعنيه في أعماله المنشورة في فترة الستينيات من القرن الماضي. ومن أبرز تلك المصطلحات التي أصبحت تشير إلى حقول دلالية واقعة ضمن فكر وفلسفة ما بعد البنيوية ما يعرف بالنظام. فالنظام لم يعد يشير إلى التكرار والتجانس واللازمنية والثبات، كما في الفكر البنيوي، وإنما أصبح يرتبط بدلالات التعددية والتشتت والكثرة والاختلاف. ولم يعد هناك نظام واحد. فطبيعة النظام تتعدد وتتغير حسب طبيعة البنية الخطابية وما تتطلبه من آليات الفرز والتصنيف. وتجاوز فوكو مبدأ اللازمنية ليعمد إلى التقسيم الزمني والتحقيب التاريخي كأساس إجرائي لدراسة الخطاب وللكشف عن طبيعته وآلياته في التهميش والإقصاء. وبذلك أصبح الحاضر مركز اهتمام فوكو الفلسفي ونقطة انطلاق لبحثه في التاريخ الحضاري للثقافة الغربية. وكان هدفه من وراء البحث التاريخي الكشف عن المختلف والمهمل ومن ثم دراسة الأسباب الثقافية والاجتماعية التي وقفت خلف عمليات التهميش والإبعاد والطرد أو الكبت والعزل. ولهذا درس فوكو الدلالات الثقافية والإشكاليات الحضارية التي ارتبطت بالمرضى العقليين والمساجين والمجرمين والشاذين جنسيا وجميع الفئات الاجتماعية المهمشة التي يتم إقصاؤها عن مراكز القوة وصناعة القرار(172).
 وفي (حفريات المعرفة) طرح فوكو مفهوم (الانقطاعات Discontinuity) المتعلق بفكرة التحقيب التاريخي أو ما يعرف بالتاريخ المحاصر. عارض فوكو طريقة عمل المؤرخ التقليدي في سعيه إلى إضفاء نوع من الاستمرارية والربط بين الأحداث ليخلق سردا متجانسا ومتسلسلا عن التاريخ. ويصر فوكو في (حفريات المعرفة) على أن معرفتنا المتعلقة بالحقيقة والعقل والجسد وعلوم الطبيعة واللغة والسياسة لا تعد محصلة عمليات تطور تاريخي ومعرفي متجانس ومتسلسل وتراكمي، بل هي محصلة تناقضات وتحولات معرفية ودلالية جذرية. فبعد كل فترة تاريخية من فترات الاستقرار والثبات والتي لا تتعرض خلالها مثل تلك المفاهيم إلى التشكيك والنقد، تأتي فترة من التغيرات السريعة والتحولات الجذرية على الصعيد الاجتماعي والثقافي والسياسي. وخلال فترات التحول السريعة لا يتبدل مضمون الخطاب فقط، ولكن يتبدل، وبشكل أساسي، ما كان يعد المعرفة بحد ذاتها (173). ومثال على ذلك، كان ينظرإلى الكنيسة والخطاب الديني المسيحي في أوروبا العصور الوسطى، بصورة عامة، بوصفهما المصدر الوحيد لإضفاء الشرعية والفصل بين ما هو خير وحق وبين ما هو شر وباطل، ولكن مع الثورة العلمية والصناعية التي شهدتها أوروبا منذ عصر النهضة والتي بلغت أوجها مع نهاية القرن التاسع عشر، فقدت الكنسية مكانتها وسلطتها التشريعية وحلت العلوم الطبيعية والخطاب العقلاني محلها. فصار خطاب العلم والعقل هو مصدر التشريع في الممارسات السياسية والثقافية والاجتماعية وهو من يحدد ما هو خير وحق وما هو شر وباطل. ويشبه هذا التصور مفهوم العالم والفيلسوف توماس كوهين (Thomas Kuhn) عن تغير النمط أو تبدل النموذج الفكري النظري (Paradigm Shift)، و يقصد به كوهن الإطار النظري للتصورات والفرضيات الفاعلة في عصر من العصور.
و يرجع مفهوم التاريخ عند فوكو إلى نيتشه وإلى مفهوم الجينالوجيا (Genealogy) على وجه الخصوص. فقد حاول نيتشه في كتابه (جينالوجيا الأخلاق On the Genealogy of Morals) أن يسقط الشرعية عن الحاضر عن طريق عزله عن الماضي، وبذلك يثبت أن الدلالات التي تحملها العديد من المفاهيم والتصورات والقضايا في الحاضر لا تعد دلالات مطلقة شمولية وكونية، وإنما هي دلالات مختلقة وترتبط بشكل كبير بنمط الخطاب المعرفي والثقافي الذي يسود في اللحظة الراهنة وفي بقعة معينة من العالم. من هذا المفهوم النيتشوي للجينالوجيا أخذ فوكو فكرته عن الانقطاعات والتحقيب التاريخي ورفض الجدل الديالكتيكي الهيغيلي وتصوره للتاريخ بوصفه سيرورة جدلية أو استمرارية تتطور خطيا نحو غاية ونقطة ميتافيزيقية أو تاريخية معينة. فالجينالوجيا ترفض التسليم بوجود تاريخ متجانس يتحرك على نحو خطي تطوري وتصاعدي، وتؤكد على أن اللحظة التاريخية عبارة عن مالا يحصى من العوامل والقرارات والمواقف وهي تقوم على الانتشار والتشتت حول بؤر متعددة ضمن اللحظة الراهنة. يرى فوكو أن البحث التاريخي يجب أن يتوقف عن معرفة السبل التي سلكتها الاستمراريات لكي تنشأ، ودراسة عمليات الانتقال والاستعادة والنسيان والتكرار. فلم تعد إشكاليات التراث والماضي تتمتع بنفس التأثير والحضور، وإنما أصبحت الإشكالية المركزية في البحث الفلسفي والتاريخي هي التحولات التي تعمل بوصفها تأسيساً وتجديداً للتأسيس، وكيفيات تعيين مختلف المفاهيم التي تسمح بالتفكير في الانفصال، مثل مفاهيم العتبة والفصل والقطيعة والتقلب والتحول. وبذلك تكون كتابات فوكو عبارة عن حفريات معرفية في تاريخ وكيفيات تشكل مؤسسات معينة وأنماط من الخطابات في سياق اجتماعي وتاريخي وجغرافي محدد. وتكشف تلك الكتابات عن وهم التصور المتعلق بوجود حقائق كونية أو ميتافيزيقية تقع خارج الحدود المادية لعمليات التشكل التاريخي للمعرفة. وبتبنيه لمفهوم الجينالوجيا، فان فوكو لا يتجاوز الفلسفة الهيغلية فحسب، ولكنه يتجاوز كل من الماركسية والوجودية في الوقت ذاته. وقد ظهرت صورة التاريخ بوصفه تعاقبا لمجموعة من الحقب تتراوح بين الثبات والاستقرار أو التحول والتغير الراديكالي عند ليوتار فيما بعد، وتحديدا في نظريته حول تبادل الأدوار بين الحداثة وما بعد الحداثة بطريقة التتابع منذ بداية التاريخ، وليس فقط في الانتقالة من مجتمعات الحداثة الغربية في القرن التسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين إلى ما بعد الحداثة في النصف الثاني من القرن العشرين.

تعليقات

المشاركات الشائعة