أفاتار .. عالم ما بعد الواقع الفائق


أفاتار ..عالم ما بعد الواقع الفائق

                                    أماني أبو رحمة

 

في السابع عشر من ديسمبر عام 2009، كان جماهير السينما على موعد مع نوع جديد من تجربة الأفلام، فيلم (آفاتار). حقق الفيلم أرباحا تقدر بنحو 278 مليون دولار في أسبوع العرض الأول. وبعد عشرة أسابيع من طرحه في دور العرض تجاوز الفيلم حاجز الملياري دولار. كان آفاتار عبارة عن مائة واثنين وستين دقيقة من المحاكاة النقية. لا يوجد شيء تقريبًا من عالم آفتار خارج شاشة الكمبيوتر أو السينما عدا الممثلين.

في (السيميولاكرا والمحاكاة)، يري بودريار أن ما حدث في ثقافة ما بعد الحداثة هو أن مجتمعنا أصبح يعتمد على النماذج والخرائط لدرجة أننا فقدنا كل اتصال مع العالم الحقيقي الذي سبق الخريطة. لقد بدأ الواقع نفسه في تقليد النموذج الذي يسبق الآن العالم الحقيقي ويحدده: "لم تعد  المنطقة على الأرض تسبق الخريطة، كما أنها لم تعد تبقي عليها. ذلك أن الخريطة  التي تسبق المنطقة على الأرض - أسبقية التزيف - هي التي تولدها". وعندما يتعلق الأمر بمحاكاة وزيف ما بعد الحداثة، "لم تعد مسألة تقليد، ولا ازدواجية، ولا حتى محاكاة ساخرة. إنها مسألة استبدال علامات الواقع الحقيقي". لا يشير بودريار فقط إلى أن ثقافة ما بعد الحداثة هي ثقافة مصطنعة، لأن مفهوم الاصطناعي لا يزال يتطلب بعض الإحساس بالواقع الذي نتعرف به على المصطنع. وجهة نظره، بالأحرى، هي أننا فقدنا كل القدرة على فهم الفرق بين الطبيعي والمصطنع. فالصور، التي تتكشف عن حقيقة أنه لا شيء خلفها، تغتال الواقع، كما يقول بودريار؛ وتقتل نموذجها الخاص. ومع ذلك، يضيف، أن الفكر الغربي يقابل هذه القوة القاتلة [المظلمة]ــ المحاكاة الزائفةـــ ـ بالقوة الجدلية [المشرقة]؛ التي هي التمثيل. فإذا كان من الممكن مبادلة العلامة بعمق المعنى (لأن المحاكاة هي دائما سطح)، فإنه يمكننا الإبقاء على مبدأ الواقع، وستكون العلامة في المرتبة الثانية بعد المدلول. والشيء الوحيد الذي يمكن أن يضمن مثل هذا التبادل(بين الواقع والعلامة)، يدّعي بودريار، هو "الله". وفي اللحظة التي تتم بها محاكاة "الله"، يتحول النظام بأكمله إلى التزييف.

يكمن مبدأ التمثيل في التكافؤ بين العلامة والواقع، في حين أن جذور منطق التزييف تقع في النفي الراديكالي للعلامة كقيمة. يقول بودريار "في حين أن التمثيل يحاول استيعاب المحاكاة الزائفة من خلال تفسيرها بوصفها تمثيلا خاطئا، تغلف المحاكاة الزائفة صرح التمثيل كله كما لو أنه تزييف فقط. يحدد بودريار المراحل المتعاقبة للصورة:1. أنها انعكاس لواقع أساسي أو لحقيقة. 2. أنها تخفي وتحرف حقيقة أساسية.3. أنها تُقنّع غياب الواقع الأساسي.4. لا علاقة لها بأي حقيقة أو بأي واقع أيا كان: إنها التزييف النقي. " في الحالة الأولى، الصورة هي مظهر حسن - ينتمي التمثيل إلى ترتيب مقدس. في الثانية، الصورة هي مظهر الشر - ترتيب للإيذاء. في الثالثة، تحل الصورة مكان المظهر - ترتيب السحر. وفي الرابعة، لم تعد تحتل مكان المظهر، ولكن المحاكاة.

في( أفاتار)، وصلنا إلى الحالة الرابعة، إلى "المحاكاة الخالصة"، إلى" التزييف النقي". ليس لدينا مرجعيات حقيقية لما نراه على الشاشة. إنه كون مخترع ومتخيل بالكامل أو محاكاة. ما هو أكثر إثارة للاهتمام هنا أن البطل "جيك سولي" مرتبط من خلال الفضاء السايبيري بجسم مادي غريب آخر، "الأفاتار" الخاص به، والذي يمكنه من خلاله العيش بحواس كاملة والتحايل كما لو كان جزءًا منه. في الواقع، هو جزء منه وهذا هو الاتصال المفترض الذي أصبح ممكنا بفضل الفضاء السايبيري (الإنترنت) والذي بدأه "الإنسان" أوائل القرن العشرين. في ذلك الوقت كان الأمر يتعلق بالسايبرنيتيكية؛ أنظمة التحكم الذاتي والتي يمكن استخدامها لتعديل تشغيل النظام بطريقة ما. في سنوات الحرب وما بعدها، امتد البحث ليشمل الروبوتات وتفاعل الإنسان مع التكنولوجيا.

هل كان (أفاتار) بعيدا عن الواقع والتكنولوجيا الحالية؟ يجب أن نبدأ بقبول تأكيد بودريار على الواقعية الفائقة. يقول "إذا تمكنا مرة من عرض حكاية بورخيس التي رسم فيها رسامو الخرائط في الإمبراطورية خريطة مفصلة للغاية بحيث غطت، في نهاية المطاف، الإقليم تماما(يشهد انحدار الإمبراطورية تآكل هذه الخريطة، شيئًا فشيئًا، حتى خرابها، على الرغم من أن بعض الأطلال لا زال يمكن تمييزها في الصحاري - الجمال الميتافيزيقي لهذا التجريد المتهدم يشهد على كبرياء مساو لكبرياء الإمبراطورية وتعفن مثل جثة تعود إلى مادة التربة، مثل النهايات المزدوجة حين تختلط بالواقع مع تقدم الزمن) - باعتبارها أجمل أليغوريا عن المحاكاة، تكون دائرة هذه الحكاية قد اكتملت بالنسبة لنا، ولم تعد تمتلك سوى السحر المميز للدرجة الثانية من السيمولاكرا. لم يعد التجريد اليوم هو تجريد الخريطة، المزدوج، المرآة، أو المفهوم. لم تعد المحاكاة تخص إقليمًا أو كائنًا مرجعيًا أو عنصرا. إنها توليد نماذج من واقع بلا أصل أو حقيقة: واقع فائق".

نص (السيميولاكرا والمحاكاة ) أيقوني في حد ذاته. عندما كُتب، كان الإنترنت فكرة مفترضة وليست حقيقة وكان التقدم في التكنولوجيا الذي نشهده اليوم، إلى حد ما، افتراضا. يعد فهم سياق النص أمرًا مهمًا ولكنه لا يجعله أقل أهمية اليوم. في الواقع، يكاد العالم التكنولوجي الحديث أن يكون دليلا على تنظيرات بودريار. يمكننا أن نقول أن ما نظر له بودريار قد تحقق وأننا نعيش فعلا في عصر المحاكاة. في عام 1995، بعد إنشاء شبكة الإنترنت، أصدر مارك نونيس كتابه ( جان بودريار في الفضاء السايبيري: الإنترنت، والافتراضية، وما بعد الحداثية ) الذي حاول فيه إثبات نظريات بودريار في سياق عالم ما بعد الإنترنت. يكتب نونيس" بالنسبة لبودريار، يحدث التحول من الواقع إلى الواقع المفرط عندما يفسح التمثيل المجال للمحاكاة. يمكن للمرء أن يقول إننا نقف على حافة مثل هذه اللحظة، التي تميزت في المقام الأول بالحضور الناشئ لعالم افتراضي".

علاوة على ذلك، يقول "تخيل ذلك اليوم عندما يصبح السائق والسيارة وحدة سايبرنيتيكية، مركبة تغذيها الشبكة. يمكن للمرء أن يرى بالفعل هذه الصورة في العمل على الإنترنت، حيث يعمل الكمبيوتر المتصل بالانترنت مركبةً- شبكة لعالم افتراضي". بشكل عام، يمكننا أن نقول إن نونيس قد أثبت بنجاح أننا دخلنا عصر الواقعية الفائقة وأنه قد سيقن بودريار في حياتنا التي باتت تقوم على الانترنت. وربما أصبح السؤال الآن ليس ما إذا كنا منخرطين في المحاكاة، أو في الواقع الفائق ولكن ما إذا كان هناك شيء ما أكثر من ذلك. ربما نكون بحاجة إلى التحول نحو التنظير لما بعد الواقعية الفائقة وما قد يتبعها.

 


تعليقات

المشاركات الشائعة