الفن في عصر السايبرنيتيكية البيولوجية

الفن في عصر السايبرنيتيكية  البيولوجية

                                        أماني أبو رحمة

العمل الفني في عصر الاستنساخ السايبرنيتيكي البيولوجي

السايبرنيتيكية البيولوجية biocybernitic( علم التحكم الآلي الحيوي)، إذا، هي الواقع المهيمن التقني والعلمي لعصرنا. لقد حل علم الأحياء محل الفيزياء في واجهة العلم، وحلت المعلومات الرقمية محل الكم المادي للكتلة والطاقة كأشكال سائدة للمادية المتخيلة. لا يمكن لأي شخص قرأ دونا هاراوي في السايبورغ، أو شاهد أفلام الخيال العلمي على مدى العشرين عامًا الماضية أن يفشل في ملاحظة تفشي انتشار هذه الثيمة.

جاءت كلمة "السايبرنيتيكية" من المفردتين اليونانيتين κυβερνητική وتعني التحكم وκυβερνήτης وتعني المتحكم بدفة القارب، وهي بالتالي تقترح نظامًا للتحكم والسيطرة. بدأت السايبرنيتيكية الحديثة كدراسات متضافرة التخصصات تربط حقول انظمة السيطرة ونظرية الشبكة الاليكترونية والهندسة الميكانيكية، والمنطق، والبيولوجيا التطورية، وعلوم الاعصاب والانثروبولوجيا، وعلم النفس في الاربعينيات من القرن الماضي في مؤتمر ماكي. وصف نوربرت وينر السايبرنيتيكية بأنها "المجال الكامل لنظرية التحكم والاتصال سواء في الآلة أو الحيوان" . من ناحية أخرى، تشير البادئة (بايو bio) إلى مجال الكائنات الحية التي يجب أن تخضع للمراقبة، والتي قد تقاوم هذه السيطرة بطريقة أو بأخرى، وتصر على "حياة خاصة بها". إذن، لا تشير السايبرنيتيكية البيولوجية إلى مجال التحكم والاتصال فحسب، بل إلى المجال الذي يستعصي على التحكم ويرفض التواصل. وبعبارة أخرى، يمكننا أن نشكك في فكرة أن عصرنا يوصف بأنه "عصر المعلومات" أو "العصر الرقمي" أو عصر الكمبيوتر، وأن نقترح نموذجًا أكثر تعقيدًا وتضاربًا، يرى كل هذه النماذج من الحساب والتحكم متشابكة في صراع مع أشكال جديدة من عدم القدرة على التحكم وعدم السيطرة، من فيروسات الكمبيوتر إلى الإرهاب.

وضحت أفلام مثل (عداء النصل) و (المصفوفة) و(الفضائيون) و( اليوم السادس)  و(الذبابة) و (الحديقة الجوراسية) مجموعة من الأوهام والرهاب التي تحوم حول السايبرنيتيكية البيولوجية: شبح الجهاز الحي، تمثيل المادة الميتة والكائنات الحية المنقرضة بالرسوم الكرتونية، وعدم استقرار هوية الأنواع والاختلاف، وانتشار الأعضاء الاصطناعية والأجهزة الإدراكية، وكيف أصبحت المرونة اللانهائية للعقل والجسم البشري مواقع للثقافة الشعبية.

يتم توضيح التباين بين النموذج الميكانيكي والنموذج السايبرنيتيكي البيولوجي من خلال نموذج السايبورغ الجديد الذي قدمه أرنولد شوارزنيجر في ( المبيد2). يلعب شوارزنيجر دور الروبوت التقليدي، تجمع ميكانيكي للتروس، والبكرات، والمكابس مدفوعة بدماغ كمبيوتر وأجهزة محركات هي الأكثر تقدما. لكنه يواجه( مبيد ) من طراز جديد يتكون من المعدن الحي، وكايميرا  متغير الشكل قادر على أخذ أي هوية.  يهيئونا الفيلم  كي  نشعر بالنوستالجيا للأيام الخوالي حيث  الرجال الميكانيكيين الذين يمكنهم التعبير عن الأسف لعدم قدرتهم على البكاء، والرعب من الشكل الجديد للتحولية اللامتناهية والطفرة، والسعي بلا هوادة إلى انقراض الأنواع البشرية.

يلتقط الطائر الاسطوري  الكاسر ( رابتور)  من فيلم (الحديقة الجوراسية) لستيفن ألان سبيلبرغ، مثل أحفورة متحجرة مستخرجة من فيضان زمن قديم، مفارقة السايبرنيتيكية البيولوجية.  يمثل بجلده المضاء برموز الحمض النووي الذي أعاد له  الحياة ،  صورة جدلية لأحدث أشكال الحياة وأقدمها. إنه التوأم الملتصق ولكن المناقض للتكنولوجيا الحيوية،  يندمج هنا الابتكار المستمر والتقادم المستمر، وخلق الحياة وانقراضها،  والتكاثر بالاستنساخ  وفناء الأنواع،  في جشطالت واحد.

تجسد  صورة الرابتور الرقمي في الفيلم، حلم السايبرنيتيكية البيولوجية لكنها تدفعه إلى أقصاه. لا يقتصر حلم الفيلم على الصيانة غير المحدودة لشكل الحياة في توازن يحثه تنظيم ذاتي مثالي، ولكن قيامة الحياة المنقرضة برموز سايبرنيتكية. إن حلم السيطرة على الحياة، واختزاله إلى العمليات الميكانيكية المحسوبة، يُعرض هنا على أنه الفانتازيا النهائي: ليس فقط التغلب على  الموت (كما هو الحال في فرانكنشتاين) ولكن التغلب على  موت الأنواع عن طريق استنساخ الحمض النووي للمخلوقات المنقرضة. هذه الفانتازيا للسيطرة السايبرنيتيكية هي بالضبط ما تضعه رواية الفيلم موضع تساؤل.

لقد اقتحم الرابتور غرفة التحكم متطلعا لالتهام المراقبين. أطلقت رموز الحمض النووي التي تعبر عن سيطرتها على عمليات استنساخ الديناصورات المستنسخة العنان لمخلوقات من دم ولحم حقيقية استولت على وسائل الاستنساخ الخاصة بها. الديناصور الرقمي هو تحديث سايبرنيتيكي بيولوجي لأقدم قصة عن خلق الحياة، تلك الحياة التي تبدأ بكلمة الله، والكلمة تصبح لحما، صورة جسدية للخالق - صورة، كما نعلم، لن تتمرد على خالقها.

السايبرنيتيكية البيولوجية هي محاولة للسيطرة على الأجساد بالشفرات وعلى الصور باللغة. إن التشابه بين الهندسة الوراثية الحيوية للكائنات والرسوم المتحركة الرقمية للصور الجرافيكية قد تم إتقانه في هذا الرمز، كما لو أن شخصًا ما قد ضغط على زر "كشف الشفرات" لعرض الأساس الرقمي للمخلوق نفسه وتمثيله السينمائي. ربما تكون هذه، إذن، إحدى مهام الفن في عصر الاستنساخ السايبرنيتيكي البيولوجي، الكشف عن الشفرات وكشف وهم السيطرة على الحياة.

تعليقات

المشاركات الشائعة