الاختلاف الدولوزي: الحياة نفسها اختلاف وتوليف.


الاختلاف الدولوزي: الحياة نفسها اختلاف وتوليف.
أماني أبو رحمة
تدعي الحجج البنيوية أو الحداثية، بصفة عامة، عن أسبقية الاختلاف أنها قطع جذري في تاريخ الأفكار. وتقول هذه الحجج شيئا من قبيل أننا اعتدنا على التفكير في عالم من الكيانات ذات المغزى، لكل منها جوهره الخاص وطريقة وجوده، يحكمها الله أو الطبيعة بما يضمن "حقيقة" و"نظام" هذا الواقع. ومع الحداثة أدركنا أن العالم لا معنى له إلا باللغة أو الاختلافات التي نفرضها عليه. ليس لدينا عالما من كائنات وموضوعات مختلفة، عالما من المعاني، أو واقعا إلا من خلال أفعال الكلام، والمعرفة، والتركيبات(البنى) التي يمارسها الذات. هذا يعني أننا ننتقل من فكرة عالم من الهويات التي سنعرفها ونمثلها، إلى بُنى من الاختلافات التي نفرضها على العالم، مثل تلك المعرفة والتمثيل هي ما يُشكل، في الواقع، العالم.
في القرن الثامن عشر وُصف نظام الاختلافات هذا من خلال الإشارة إلى المفاهيم أو الأفكار التي نفرضها على العالم. وفي القرن العشرين وُصف بأنه بنية من الدوال؛ نظام الدلالة. يقول البنيويون إنه لا يمكن أن يكون لدينا مفاهيم دون نظام مادي (الأصوات أو العلامات) التي تمكننا من التصور والغدراك وتكوين المفاهيم. يتفق دولوز مع البنيوية (وهيجل) في أن الاختلاف، وليس الهوية، هو الأسبق وهو الأساسي. لكنه يختلف عن البنيوية في قولها إن الاختلاف ليس بنية مفروضة، وليس نظاما أيضا.
 الاختلاف ليس مجموعة من العلاقات. الاختلاف ليس العلاقة بين شيء وآخر، وليس الاختلاف هو النظام العام الذي يخلق عالما من الأشياء والموضوعات (كما هو الحال في البنيوية). الاختلاف عند دولوز هي في حد ذاته مختلفا في كل تأكيداته وتحقيقاته: الاختلاف الجنسي بين الأجساد يختلف في كل حالة (على الرغم من أننا نعمم ونشير إلى الرجال والنساء فقط)؛ الاختلاف الجيني يخلق بطريقة مختلفة في كل طفرة (على الرغم من أننا نعمم ونشير إلى الأنواع البيولوجية)؛ الاختلافات البصرية في كل حالة مختلفة (على الرغم من أننا نعمم ونشير إلى الطيف اللوني). الحياة نفسها هي الاختلاف، وهذا الاختلاف يختلف في كل حالة. في حين ينظر إلى البنيوية عادة على أنها قطع جذري مع التاريخ الغربي للتفكير بالهوية – أو فرضية أن سياسات الحياة والاختلاف الايجابي له جوهر أو حضور- يقول دولوز إن ليس للبنيوية مثل هذا الاختراق الذي تدعيه.
ففي ما قبل الحداثة كان الفكر يقول إن حقيقة ووجود وهويه العالم معطاة من الخالق. كل الاختلافات منبثقة عن هذا الأصل غير المتمايز. ولكل منهما جوهره الخاص في التسلسل الهرمي الإلهي كله (وكان الاختلاف فقط هو العلاقة بين جوهريات متطابقة ذاتيا). في الفكر الحداثي، بينما الاختلاف يعتبر أساسا وأسبقية ، فإنه لا يزال يرتكز على الذات. التمايز عند البنيويين انتجته أنظمة الدلالة الإنسانية. الذات المتكلم هو من يميز العالم إلى هويات محددة، وقضايا التمايز من بنى (مثل انظمة اللغة والثقافة والأسطورة وتبادل الزواج وهلم جرا). هذا التحول الجذري المفترض من الله إلى الإنسان، يقول دولوز، ليس تحولا على الإطلاق.
حتى البنيوية اللاانسانوية (ما بعد البنيوية) - حقيقة أن لا ذوات بشرية تؤلف النظام الذي يجعل الكلام ممكنًا -لا يزال شكلا من أشكال الذاتية أيضا. لأن الاختلاف لا يزال ينشأ من ذات (أو أصل جوهري)، حتى لو كان هذا الذات هو "اللغة" أو "الثقافة" بشكل عام. لا يزال تنظيم الاختلاف يدور حول مركز أو بنية. ضد هذه الفكرة عن الاختلاف بوصفه مفروضا ومنظما، يجادل دولوز أن الاختلاف إيجابي ومتفرد. الاختلاف إيجابي، لأنه لا يوجد حياة غير متمايزة تحتاج إلى أن تُنظم بالاختلاف. الحياة نفسها تمايزية. فكر في الطريقة التي يعيش بها أي كائن حي؛ هو في حالة من الصيرورة أو التمايز. ثانيًا، الاختلاف هو فريد لأن كل حدث من الحياة يميز نفسه بشكل مختلف. هناك اختلافات لغوية، هناك أيضا اختلافات وراثية والاختلافات الحسية (مثل ادراك الالوان ، والنغمات، والملمس)، والاختلافات الكيميائية، والاختلافات الحيوانية والاختلافات غير المحسوسة.
في الواقع، فإن جوهر الاختلاف هو عدم إدراكه، الاحساس المدرك بالفعل تم تحديده أو اختزاله أو "التعاقد عليه". عندما ندرك الاختلاف بين الأحمر والأزرق نفعل ذلك فقط لأننا لا ندرك الاختلاف في كل اهتزازة للضوء. تجمع أعيننا البيانات المعقدة في ظل واحد أو كائن هو إما الأحمر أو الأزرق مثلا، أي انها تحدد الاختلافات وتختزلها إلى موضوعات محددة. وفقا لدولوز فإن موضعة البنيوية وما قبل الحداثة للاختلاف ضمن نظام يجعله واسعا وسلبيا. ففي المنطق السليم ما قبل الحداثي، الاختلاف سلبي لأنه يعتمد على كونه العلاقة بين موضوعات وأشياء هي في حد ذاتها متملثة ذاتيا ومتماثلة. لذلك فإن الاختلاف ثانوي. أما الإختلاف البنيوي فهو أيضا سلبي. انه التمايز ضمن كائنات غير متمايزة - مما يجعل الاختلاف مرة أخرى يعتمد على البنية التي تقوم بالتمييز. الاختلاف البنيوي يُمنح فقط من خلال آثاره، والتأثير هو النظام - وبالتالي فإن الإختلاف يعود في نهاية المطاف إلى الهوية (مثل اللغة أو البنية أو الثقافة) التي لا يمكننا فهمها في ذاتها. بالنسبة للبنيوية، من المفترض أن يكون هناك وسيط أو عامل اختلاف، حتى لو كان هذا دلالة أو ثقافة أو لغة بشكل عام. كل الاختلاف يتم اختزاله إلى نظام واحد أو شكل واحد للاختلاف، وعليه فإن ما هو أساسي ليس الاختلاف على الإطلاق، بل ما يقوم بالاختلاف، ما يتسبب في ادراكنا له بوصفه اختلافا.
 الاختلاف، في المشهد البنيوي، هو ما يقسم أو يحدد أو ينظم ما يُفترض أنه واقع ما قبل لغوي أو تفاضلي. الواقع "بالتالي" بعيد المنال، آخر، مفقود، نتوق إليه ولا نحققه ابدا. والحقيقة، إذا، يتم توليفها بمعنى تركيبها أو بناؤها. في مقابل هذا الفهم السلبي للإختلاف، يصر دولوز أن الإختلاف ايجابي. ليس أن هناك واقعا غير متمايز نقوم نحن بتميزه وتحديده بنظام اللغة مثلا، بل أن هناك اختلافات حقيقية وصيرورات أكبر بكثير (أو أصغر) من الاختلافات التي نميزها باللغة. لا يمكننا أن نجعل الاختلاف أو التوليف قصرا على الإنسان أو حتى على الحياة العضوية. الحياة نفسها هي اختلاف وتوليف.
لا يمكننا حتى أن نقول أن كل "نقطة" في الحياة تمايز نفسها بطريقتها الخاصة، لأن الحياة ليست مجموعة من نقاط مختلفة أو متميزة. إنها اختلافات مستمرة، وبين أي نقطتين قد نحددهما في هذه السلسلة من الاختلاف هناك مزيد من الاختلافات اللامتناهية، كل منها مختلف "بطريقته الخاصة". وبدلا من فهم العالم ككل مكون نقاط متكافئة، كل منها تتعلق بالآخرى عبر فضاء موحد ومعرف ومحدد، يشير دولوز إلى منحنيات والتواءات. إذن ما لدينا ليس عالما ثم يجري تميزه من قبل ذات أو نظام، ولكن منحنيات أو التواءات: حياة من الاختلافات أو الانحرافات اللانهائية، في حين أنه لا يوجد أي منحنى أو حدث اختلاف وصيرورة مثل غيره. "الذرات" أو أصغر الوحدات التي تشكل الحياة ليست أشياء ولكن حوادث الاختلاف: والالتواءات هو العنصر الجيني المثالي للمنحنى المتغير أو للانعطافة: "الالتواء هو الذرة الأصيلة، نقطة المرونة... يُعرِّف برنار كاش الالتواء - أو نقطة الالتواء - باعتبارها التفرد الجوهري. وعلى عكس "extrema" (التفردات الخارجية ، القصوى أو الدنيا)، فإنها لا تشير إلى الإحداثيات: ليست عالية ولا منخفضة، لايمين ولا يسار، لا تراجع ولا تقدم... وبالتالي فإن الالتواء هو الحدث الخالص للخط أو النقطة، الإفتراضي، المثالي بامتياز".
يمكننا أن نتخيل نقطة من نقاط الحياة بوصفها التقاط وفهم أو إدراك علاقة أو صيرورة أخرى، مثل تلك النقاط التي سبقت الادراك الحسي (العقل حين يدرك العالم حسيا). أو، مع دولوز، يمكن أن ننظر إلى الحياة على شكل سلسلة من المنحنيات أو الالتواءات والإنعطافات. لن تكون علاقة أو ادراك( س )بـ أو /لـ(ص) خطًا مستقيمًا أو صورة مباشرة، بل انها ستُلوى بالطريقة المحددة لما هي (س). وينطبق الشيء نفسه على علاقة (ص) بـ(س). العلاقات والاختلافات لن تكون موحدة ولا متماثلة – وسبب ذلك أن نمط أو طريقة الاختلاف تعتمد على كل حدث معين من الاختلاف. فالنقاط (س) و (ص) هي ما هي عليه فقط لأن لديها أشكالها الخاصة بها للصيرورة أو ميولها الخاصة للإختلاف).
وفقط إذا موضعنا الاختلاف في العقل أو اللغة فسنرى ما هو خارج العقل أو اللغة غير متمايز. (نميل إلى التفكير في المطلق أو اللانهائي بوصفه ما يقع خارج أو أبعد من معرفتنا بالمفاهيم المحددة، ولكن يرى دولوز اللانهائي ليس بوصفه شيئا ما ورائيا عظيما، ولكنه اختلاف لا متناه داخل الحياة نفسها: اختلافات ميكروسكوبية، غير محسوسة و لا ـــ إنسانية). يرى دولوز إن الفهم السلبي للاختلاف، الاختلافات بوصفها نظاما مفروضا على واقع غير متمايز –وهم. جاء هذا الوهم كما يقول الاختلاف الدولوزي من جعل ذات وموضوع ما مصدر ومؤلف وأصل كل الإختلاف. يفترض هذا الوهم أيضا نقطة ما أو موقعا خارج الاختلاف كي تشرح وتفسر وتنتج الاختلاف. بالنسبة لدولوز، هذا هو وهم الفكر: الوهم أو الخضوع للمتجاوز المتعالي. وبدلا من قبول مسطح واحدي(محايث) للاختلاف الجذري، حيث لا يوجد شكل من أشكال الاختلاف يمكن أن يفسر أو يُرفع فوق أي اختلاف أخر، فإننا نميل إلى رؤية الاختلاف بوصفه اختلاف وجود ما؛ نقطة متعالية أو خارج مسطح المحايثة منتصبة بوصفها مصدر كل اختلاف.

تعليقات

المشاركات الشائعة