فوكو ما بعد الحداثي.

فوكو ما بعد الحداثي
أماني أبو رحمة

نقد فوكو للحداثة والانسانية، مع مزاعمه "بموت الانسان" وتطوير جوانب جديدة عن المجتمع والمعرفة والخطاب والسلطة، جعلت منه مصدرا رئيسا في فكر ما بعد الحداثة.
نهل فوكو من تقاليد مناهضة التنوير التي ترفض معادلة العقل والتحرر والتقدم الخطي وتقول بأن المواجة بين الأشكال الحداثية من السلطة والمعرفة ساعد في خلق أشكال جديدة من الهيمنة. وفي سلسلة من الدراسات الفلسفية التاريخية، حاول فوكو أن يطور وأن يحور هذه الثيمة من منظورات متعددة: النفسية والطبية والعقاب والجريمة ونشأة العلوم الانسانية وتشكيل جاهزيات الانضباط المختلفة وتكوين الذات.
كان مشروع فوكو هو "أن يكتب نقدا لعصرنا التاريخي" ــ كما يقول في مقالة (ما هو التنوير)ــ يمشكل الأشكال الحداثية للمعرفة، والعقلانية، والمؤسسات الاجتماعية، والذاتية التي تبدو (معطاة) وطبيعية ولكنها في الحقيقة بني اجتماعية تاريخية طارئة شيدتها السلطة والهيمنة.
وفي حين أن فوكو تأثر بنظرية ما بعد الحداثة، إلا أنه لا يمكن ان يُدرج تحت هذا العنوان ببساطة. فالرجل مفكر بالغ التعقيد وانتقائي يستقي من مصادر متعددة واشكالية فيما لا يربط نفسه بأي منها.
كان لفوكو خطابا خاصا به للتحقيب الزمني. ونادرا ما وظف مصطلح "الحداثة modernityy". كان يميل إلى الحديث عن "العصر الحديث" الذي ميزه عن عصر النهضة والعصور الكلاسيكية،  كما عن العصر الذي بلا اسم والذي جاء بعد "العصر الحديث" لذلك أُطلق عليه، حرفيا، ما بعد الحداثة. ونحن غالبا ما نخفق في تمييز فوكو بين العصور الكلاسيكية والحديثة في نقده للحداثة لأن السلطات الإنضباطية والتطبيعية في العصر الحديث بدأت بالفعل في العصر الكلاسيكي. وعلاوة على ذلك، فإن فوكو نادرا ما يذكر خطاب ما بعد الحداثة ولم يحدث أن تبناه في أي تحليل. وردا على سؤال حول ما بعد الحداثة في أحد المقابلات، يقول فوكو: "ما الذي ندعوه ما بعد الحداثة؟ أنا لست متابعا ... أنا لا أفهم نوع المشكلات الشائعة بين الناس الذين نسميهم ما بعد الحداثين أو ما بعد البنيويين".
ربما أن فوكو قد تحدث بشكل هزلي ملمحا لمفارقة من نوع ما، وهو في الواقع يعرف عن تلك الخطابات أكثر ممن ينتسبون اليها. ولكن، سواء كان فوكو على علم بهذه التطورات أو لم يكن، فمن المؤكد أن هناك  جوانب ما بعد حداثية بارزة في فكره وأنه قد نظر باستفاضة لهذا الانقطاع التاريخي( اذا ما أردنا توظيف مصطلحاته) المسمى ما بعد الحداثة. في الفصل الأخير من (الكلمات والأشياء) وفي مقابلة أجريت معه عام 1967 يقول: "لا يمكنني تحديد العصر الحديث في تفرده إلا من خلال مقابلته بالقرن السابع عشر من جهة، وذلك، من جهة أخرى؛ ضروري من أجل أن تكون قادرا على إنشاء تقسيم باستمرار، من أجل أن تجعل الفرق الذي يفصل بيننا وبينهم منتصبا في وجه كل حكم أو ادانة ". ثم يقول" العصر الحديث... يبدأ حوالي عام 1790 عام -1810، وينتهي عام 1950". ما يعني ضمنا أن عصر الحداثة قد انتهى وأننا في عصر تالٍ لم نجد له اسما فأطلقنا عليه الاسم المثير للغثيان (ما بعد الحداثة) > يقول فوكو في اعتراف صريح أننا غادرنا الحداثة: "أليس من الضروري رسم خط فاصل بين الذين يعتقدون أن بوسعنا الاستمرار في وضع الانقطاعات الحالية على خط التقاليد التاريخية والمتعالية للقرن التاسع عشر، وأولئك الذين يبذلون جهدا كبيرا من أجل تحرير أنفسهم، مرة وإلى الأبد، من هذا الاطار المفاهيمي"؟
ومع ذلك يمكننا القول إن أهم من أثر بفوكو كان نقاد العقل والفكر الغربي من أمثال نيتشه وجورج باتاي. زود نيتشه على وجه التحديد فوكو، وكل ما بعد البنيويين الفرنسيين تقريبا، بفكرة تجاوز الفلسفة الهيغيلية والماركسية. وبالإضافة الى تحفيز صيغة التفكير ما بعد الميتافيزيقي وما بعد الإنسانوي، علم نيتشه فوكو أنه يمكن للمرء أن يكتب تاريخ جينيالوجيا عن موضوعات غير تقليدية مثل العقل، والجنون، والذات التي تنبثق من قلب مواقع الهيمنة.
وضح نيتشه أن (الرغبة في المعرفة والحقيقة) لا تنفصم عن ارادة السلطة، وطور فوكو هذه المزاعم في نقده لليبرالية الإنسانوية، والعلوم الإنسانية، وفي أعماله الأخيرة عن الأخلاقيات.  لم يكتب فوكو بطريقة نيتشه الافوريستيكالية، إلا أنه وافق على ادعاءات نيتشه أن الاسلوب المنهجي ينتج تحليلات اجتماعية وتاريخية مختزلة، وأن المعرفة منظورية بطبيعتها، تحتاج إلى وجهات نظر متعددة لتفسير الحقيقية غير المتجانسة.
تأثر فوكو أيضا بباتاي الذي انتقد العقل التنويري ومبدأ الحقيقية في الثقافة الغربية. دافع باتاي عن أفق المغايرة وعدم التجانس وقوى الحماس الديني المتفجرة والجنسانية والخبرة الثملة التي تخرب وتعتدي على العقلانية والتطبيع الأداتي للثقافة البرجوازية. وضد النظرة العقلانية في الاقتصاد السياسي والفلسفة، سعى باتاي إلى تجاوز الإنتاج والاحتياجات النفعية، مع الاحتفاء ب "الاقتصاد العام" للاستهلاك والهدر والإنفاق بوصفه تحررا. 
وكان هجوم باتاي على الذات الفلسفية السيادية واحتفائه بالخبرات الآثمة مؤثرا على فوكو وغيره من منظري ما بعد الحداثة. وعلى مدى حياته العملية، ثمن فوكو أيضا شخصيات مثل فريدريش هولدرلين، وآخرين سعوا لتقويض هيمنة العقل الحداثي ومعايره وفي كثير من الأحيان تعاطف مع المجانيين والمجرمين، والجماليين، والمهمشين من كل الأنواع.
لا يجب أن نقرأ فوكو بوصفه ما بعد حداثي، بل منظرا يجمع منظورات ما قبل الحداثة والحداثة وما بعد الحداثة.
حاول فوكو منذ بدايات السبعينيات أن يعيد التفكير في طبيعة السلطة الحداثية في مخطط غير شمولي وغير تمثيلي و ضد الإنسانية. ونبذ فوكو كل النظريات الحداثية التي ترى السلطة راسخة في البني الكبيرة (ماكرو) أو قي الطبقات الحاكمة وأنها قمعية بطبيعتها. طور فوكو منظورات ما بعد حداثية تفسر السلطة بوصفها مشتتة غير محددة غير متجانسة شكليا وبلا ذات ومنتجة مكونة أجساد الأفراد وهوياتهم.
يدعي فوكو أن النموذجين الأساسين للتنظير لسلطة الحداثية هما: النموذج القضائي والنموذج الإقتصادي؛ وأن كليهما معيب بسب الافتراضات الخاطئة والتي عفا عليها الزمن. فالنموذج الاقتصادي كما تبنته الماركسية قد نُبذ بسبب اخضاعة الاختزالي للسلطة لهيمنة الطبقة وضرورات الاقتصاد. أما النموذج القانوني، هدف فوكو الأساسي، فهو يحلل السلطة بمصطلحات الحق القانوني والشرعي والأخلاقي والسيادة السياسية. وفي حين أن الثورة البرجوازية قد قطعت رأس الملك في المجال السياسي الاجتماعي.
 يقول فوكو إن العديد من المفاهيم والافتراضات من النموذج السيادي ـــ القانوني واصلت تغذية الفكر الحداثي (على سبيل المثال، النظرية الليبرالية عن السلطة ونظريات القمع السلطوي عموما). ولذلك فهو يحاول "قطع رأس الملك" في مجال النظرية على مقصلة الجينيالوجيا.
يمثل فوكو انقطاعا في التاريخ يفتتح نموذجا مختلفا جذريا من السلطة بدلا من التنظير في النموذج القانوني. السلطة منتجة، كما يقول في تاريخ الجنسانية، وليست قمعية بطبيعتها؛ سلطة "تعتزم توليد وتنظيم وتنمية القوى، بدلا من إعاقتها واخضاعها، أو تدميرها ".
وكما يتضح من التحولات التاريخية المثيرة التي حددها فوكو في (المراقبة والمعاقبة) من تعذيب داميان البشع إلى الإصلاح الأخلاقي للسجناء وتلاميذ المدارس وغيرها، لا تعمل هذه السلطة  من خلال القوة البدنية أو القانون، ولكن من خلال هيمنة المعايير والتكنولوجيات السياسية وتشكيل الجسد والروح.
في (تاريخ الجنسانية)، يطلق فوكو على هذه الصيغة الجديدة للسلطة " السلطة الحياتية ". وأول نماذجها الذي ذكرناه للتو هو السلطة الإنضباطية التي تنطوي على السياسات التشريحية للجسم البشري". يحدد فوكو الإنضباطات بوصفها "التقنيات لضمان ترتيب التضاعفات البشرية".
تطورت التكنولوجيات الانضباطية في البداية في الأديرة والمدن المبؤءة بالطاعون في أواخر القرن السابع عشر حين تطلب الأمر الفصل المكاني ومراقبة السكان، ولكنها سرعان ما انتشرت في المجتمع مشكلة " أرخبيلا سجنيا" عملاقا. أما النموذج الثاني للسلطة الحياتية الذي نشأ نتيجة للسلطة الانضباطية، فيركز على "جسم النوع الحي، الإنسان بوصفه نوعا" ؛ السكان في المجتمع على وجه العموم." أدركت الحكومات أنها لا تتعامل ببساطة مع أفراد أو ذوات، أو حتى مع "ناس وشعب"، ولكن مع "سكان أو ساكنة "، مع ظواهرهم المحددة ومتغيراتهم الغريبة كما يحددها في (تاريخ الجنسانية): معدلات المواليد والوفيات، والعمر المتوقع، والخصوبة، والحالة الصحية، وتواتر الأمراض، وأنماط النظام الغذائي والسكنى". مثل الاشراف على السكان، يقول فوكو:"دخول الحياة إلى التاريخ، أعني دخول الظواهر الخاصة بحياة النوع البشري في نظام السلطة والمعرفة، في حقل التقنيات السياسية". بهذا المعنى فإن أشكالا مختلفة من السلطة قد تكون ضمن السلطة الحياتية التي شرطها الضروري هو المعرفة العلمية الكافية بعلم الأحياء البشري وتقنيات تعديله: علم "حياة النوع البشري". وبالتالي، في القرن الثامن عشر، أصبحت الجنسانية كائن إدارة وتنظيم الخطاب. أنتج "نشر الجنسانية" الانحرافات والتصنيفات الجنسية بمختلف أنواعها وفقا للاستراتيجيات التطبيعة للسلطة. وخلافا للنظريات الحداثية التي ترى المعرفة محايدة وموضوعية (الوضعية) أو تحررية (الماركسية)، يؤكد فوكو أن المعرفة لا يمكن فصلها عن أنظمة السلطة.
يمكن القول إن مفهومه لل"السلطة / المعرفة" هو عرض من أعراض (التشكيك) ما بعد الحداثي في العقل والمخططات التحررية التي قدمت باسمه. تأسست العلاقة الدائرية بين السلطة والمعرفة في نقد فوكو الجينيالوجي للعلوم الإنسانية. وبسبب أنها قد نشأت في سياق العلاقات مع السلطة، ومن خلال ممارسات وتكنولوجيات الاقصاء، والاحتواء، والمراقبة، والتشييء، فإن تخصصات مثل الطب العقلي، وعلم الاجتماع، وعلم الجريمة ساهمت بدرورها في تطوير وصقل وتضخم تكنولوجيات جديدة للسلطة.
عملت مؤسسات مثل دور الايواء، والمستشفىات، أو السجون بمثابة مختبرات لمراقبة الأفراد وتجريب التقنيات الإصلاحية، واكتساب المعرفة من أجل السيطرة الاجتماعية.
أصبح الفرد الحداثي كائن وذات المعرفة على حد سواء؛ ليس مقموعا، ولكنه يُشكل بشكل إيجابي ضمن مصفوفات "آليات الانضباط ــ العلم "، فالكائن الأخلاقي / القانوني / النفسي / الطبي/ الجنسي "ملفق بعناية... وفقا لتقنية كاملة من القوة والهيئات.
يفهم فوكو مصطلح الذاتsubject)) بوصفه مزدوج المعنى كما يقول في (الذات والسلطة): فهو يعني خضوع لشخص آخر عن طريق التحكم والاعتماد، والتمسك بهويته الخاصة عن طريق الوعي أو معرفة الذات ــفي الوقت ذاته". وبالتالي، يرفض فوكو النموذج التنويري الذي يربط الوعي والتأمل الذاتي والحرية،  ويتبع بدلا من ذلك مزاعم نيتشه في جينيالوجيا الأخلاق التي تقول إن المعرفة الذاتية، لا سيما في شكل الوعي الأخلاقي، هي استراتيجية وتأثير السلطة حيث يذوت المرء الرقابة الاجتماعية. وخلافا للنظريات الحداثية التي تفترض ذاتا معطاة سلفا وموحدة أو جوهرا انسانيا لا يتغير سابقا على كل السيرورات والعمليات الاجتماعية، يطالب فوكو بهدم الذات ويرى أن ذلك تكتيكا سياسيا مهما. "على المرء، يقول فوكو في (الذات والسلطة) أن يستغني عن هذه الذات الجوهرية التأسيسية، وأن يتخلص من الذات نفسها، من أجل التوصل إلى تحليل يمكن أن يأخذ بعين الاعتبار تأسيس الذات ضمن إطار تاريخي".
فكرة الذات التأسيسية هي تعمية انسانية تسببت في منع دراسة نقدية للمواقع المؤسساتية المختلفة حيث يتم إنتاج الذوات ضمن علاقات السلطة. مقتفيا أثر نيتشه، فإن مهمة فوكو هي إيقاظ الفكر من غفوته الإنسانية وتدمير "كل الأشكال الملموسة من التحامل الأنثروبولوجي"، وهي المهمة التي من شأنها أن تسمح لنا "بتجديد الاتصال... مع مشروع النقد العام للعقل". ولإنجاز هذا، لا بد أن تُجرد الذات من دورها الإبداعي وتحليلها بوصفها وظيفة معقدة ومتغيرة للخطاب". وبالتالي، فإن فوكو يرفض الذات النشطة ويرحب بعصر ما بعد الحداثة الناشئ باعتباره حدثا ايجابيا حيث تتم تعرية الفاعل ونشوء أشكال جديدة من التفكير.
كما نرى، يؤكد تناول فوكو للسلطة على الطبيعة المتباينة للغاية للمجتمع الحداثي وآليات السلطة "المغايرة الشكل" التي تعمل بشكل مستقل عن الذات الواعية. وتحاول نظرية ما بعد الحداثة فهم الطبيعة الجمعية للحداثة ذاتها، التي يعتقد فوكو أن النظرية الاجتماعية الحداثية مثل الماركسية قد فشلت في فهمها بشكل كاف. تتميز الحداثة كما يقول غي (تاريخ الجنسانية) بحقيقة أنها عصر "لم يشهد ابدا  أكثر مما شهد في هذا الوقت من تكاثر مراكز السلطة، ومزيدا من الاهتمام الجلي والشديد، والمزيد من الاتصالات والروابط الدائرية... واكثر من مركز تشتغل فيه لتنتشر على مسافات أبعد، شدة المتع وعناد السلطات ".
وبالتالي، فإن فوكو يعرف السلطة بوصفها " حقلا متعدد ومتنقل لعلاقات القوة حيث يتم إنتاج تأثيرات هيمنة بعيدة المدى، ولكنها غير مستقرة تماما ". السلطة الحداثية هي سلطة "علائقية" مورست من نقاط التي لا حصر لها، غير محددة في طبيعتها، وليست أبدا شيئا مكتسبا، مصادرا، أو مشتركا ". لا يوجد أي مصدر أو مركز قوة للصراع أو المنافسة، ولا توجد أي ذوات تمسك بها.
السلطة هي نشاط هيكلي بحت، والافراد قنوات مجهولة المصدر أومنتجات ثانوية. في معارضة للتحليلات الإجمالية الحداثية، يأخذ فوكو تحليلا متعدد الأقطاب السلطة والعقلانية في مختلف الخطابات والمواقع المؤسسية.
يرسم فوكو حدود مقارباته بعيدا عن مدرسة فرانكفورت والمناهج الحداثية الأخرى، ويرفض الوصف العام "العقلانية ". بدلا من ذلك، فانه يحلل السلطة  بوصفها العملية التي تحدث "في العديد من المجالات، كل منها يرتكز على تجربة أساسية: الجنون، والمرض، والموت، والجريمة والجنس، الخ". ونتيجة لذلك، فإن فوكو يجري في (تاريخ الجنسانية) تحليلا "تصاعديا"بدلا من " تنازلي " يرى السلطة تدور في حقل منزوع المركز من الشبكات المؤسسية ثم في وقت لاحق تؤخذ من قبل الهياكل الكبيرة مثل الطبقة أو الدولة. هذه القوى الكبيرة ليست إلا الاشكال النهائية التي تأخذها السلطة".
هذا يفسر لماذا يطلق فوكو على نهجه "تحليلات"، بدلا من "نظرية" السلطة. يعني هذا المصطلح الأخير وجهة نظر وحدوية منظمة يسعى لتدميرها لصالح وجهة نظر جامعة ومجزأة و متباينة وغير حاسمة، كما أنها صيغة تحليلية معينة زمانيا ومكانيا. ولهذا ينبغي التمييز بين نظرية السلطة ما بعد الحداثية وتحليل ما بعد الحداثة للسلطة الحداثية. في حين أن هناك جوانب ما بعد حداثية بارزة في تحليله للسلطة، حيث أنه يذوب السلطة في عدد وافر من القوى الدقيقة، وعلى الرغم من أنه يتوقع حقبة جديدة هي ما بعد الحداثة، إلا أن فوكو لم ينظر عن تلك التقنيات والاستراتيجيات التي حددها بعض المنظرين بوصفها تشكل سلطة ما بعد الحداثة. فمثلا لمنظرين مثل بودريار، تنطوي السلطة ما بعد الحداثية على وسائل الإعلام الإلكترونية وتكنولوجيا المعلومات وأنظمة سيميائية تقوض التمييز بين الحقيقي وغير الحقيقي وتضخم بيئة مجردة من الصور والدلالات التي جرى التلاعب بها.
في الواقع، ونظرا لرغبة فوكو في التنظير لـ "هذه اللحظة الدقيقة التي نعيشها "، فمن الغريب أنه لم يقل شيئا عن الأشكال الجديدة للسلطة التي ظهرت في القرن الماضي(العشرين) بوصفها قوى اجتماعية وثقافية قوية، والتي لم يلق الضوء عليها الا جزئيا ومن حيث كونها نموذجا للسلطة الحيوية التأديبية من حيث أنها تنطوي على تداول المعلومات وأنظمة علامة مجردة. بالنسبة لفوكو، اذا، لم تكن هناك أي تطورات هامة في الآليات والعمليات والسلطة منذ القرن التاسع عشر، وهو افتراض دحضه منظرون مثل بودريار من خلال افتراض وجود مجتمع ما بعد حداثي جديد وسلطة سيميائية. في حين لم يحدد فوكو شكل سلطة ما بعد الحداثة، الا أنه توقع الابستيمة ما بعد الحداثية الجديدة والحقبة التاريخية، واصفا انطباعا قويا بأن "شيئا جديدا على وشك أن يبدأ، وهو الأمر الذي كنا نلمحه فقط كخط رفيع من الضوء الخافت في الأفق".
ولكن هذا العصر ليس محددا بما يتجاوز مفهومه عن عهد ما بعد الانسان وبالتالي لم يُستكشف بشكل أوسع من حيث العمليات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية، أو الثقافية الجديدة. هذه النقلة في قكر فوكو الاخير كانت للتحول من تحليل الحداثة نحو تحليل ما قبل الحداثة من أجل مواصلة تطوير جينيالوجيته عن الذات الحداثية. وعلاوة على ذلك، في مقالات لاحقة مثل "ما هو التنوير؟" نجد أنه بدلا من افتراض قطيعة جذرية في التاريخ، نرى أن فوكو يرسم استمرارية رئيسية بين عصرنا الحالي والتنوير. وبذلك، فانه يعدل نقده السابق للعقلانية بطرق مهمة  تجبرنا على إعادة النظر في اتهاماته بأنه غير عقلاني وجمالي. في حين أنه واصل انتقاد العقل التنويري، حاول فوكو الاحتفاء بايجابية بالجوانب الأساسية المناسبة من التراث التنويري – ادراكه التاريخي الحاد للحاضر، والتركيز على الاستقلالية العقلانية مقابل المطابقة والدوغما، وتطلعاته النقدية. وهو يرى أن قبول العقلانية الحداثية دون تمحيص والرفض التام على الدرجة ذاتها من الخطورة ، يقول في (ما هو التنوير): "إذا كان القول بأن العقل هو العدو الذي يجب القضاء عليه خطير جدا، فمن الخطير بنفس القدر أن نقول إن أي تشكيك نقدي يخاطر باتهامنا باللاعقلانية ".
ينقذ هذا التوصيف فوكو من معضلة التبرؤ من العقل من وجهة نظر العقلانية. فالفكر النقدي يجب أن يعيش باستمرار داخل حقل من التوتر. وظيفته هي القبول والتنظير "هذا النوع من الباب الدوار للعقلانية يكشف لنا عن ضرورته، عن أنه لا يمكن الاستغناء عنه، وفي الوقت نفسه عن مخاطرها الجوهرية". وبالتالي، فإن فوكو يعدل موقفه تجاه التنوير والحداثة، والعقلانية. في حين أن انتقاداته المبكرة للحداثة سلبية بشكل حاد، إلا أنه  في وقت لاحق وفي بعض الأحيان تتبنى موقفا أكثر إيجابية، حين انتبه الى اشارات نقدية في ( ارادة المعرفة) الحداثية  التي ينبغي الحفاظ عليها.
وهذا ما قاده إلى  تعديل موقفه المتعلق بالذاتية والتي يرى أنها ليست سوى بناء الهيمنة. هذه التغييرات دليل على وجود تحول في الفكر الفرنسي بعيدا عن الشجب السابق للعقل والذاتية، قام به أيضا ليوتار بإعادة تقييم مماثل للعقل وخصوصا بعض المواقف الكانطية في عمله.

  

تعليقات

المشاركات الشائعة