هابرماس بين ما بعد الحداثة وما بعدها

أماني أبو رحمة.
من القضايا الإشكالية التي برزت في حقبة ما بعد الحداثة، العلاقة الجدلية الفينومينولوجية بين الوعي والإدراك من جهة، وبين العالم الخارجي من جهة أخرى. عزل التصور الراديكالي لما بعد الحداثة الوعي عن العالم الخارجي. واستعادت ما بعد الحداثة أكثر مقولات الفسلفية الوضعية المنطقية تطرفا فيما يخص إنكار وجود شيء ما في الخارج. وتحول الإدراك في ما بعد الحداثة إلى بنية إنشائية بلاغية مبرمجة من قبل الخطابات التي تهيمن على الثقافة. ومع إنكار وجود أي مرجعية خارجية للتأكد من مدى مصداقية الخطاب وحقيقته، تسقط الخبرة الإنسانية في النسبية المطلقة ولا يعود للتجربة والخبرة أي أهمية تذكر في عملية تطور الوعي وتقدم الإدراك. وفي النهاية، لا يتبقى، حسب ما بعد الحداثة، سوى إمكانيات اللعب واللهو والعبث، ويتلاشى العمق ليفسح المجال أمام تكرار لا متناه من السطوح، كما يقول بودريلار. وقد وصل الأمر بهذا الفيلسوف البارز إلى حد إنكار حدوث حرب الخليج الأولى في بداية التسعينيات، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
 بدأت مرحلة (بعد ما بعد الحداثة) الجديدة بالانفتاح على العالم الخارجي والتحرر من سجن اللغة وسجن الخطاب، ومثال على ذلك تصاعد المطالبة بالحفاظ على البيئة والبحث عن البدائل للطاقة الأحفورية. تخطى الاهتمام بقضايا البيئة النطاقات المحدودة التي شهدتها السبعينيات والثمانينات من القرن العشرين والتي كانت تتمثل بحركات راديكالية يسارية، مثل حزب الخضر وحركات جماعات الهبيين في الغرب. لقد شهد العقد الأخير من القرن العشرين تزايداً ملحوظاً في عدد البحوث العلمية المكرسة للبيئة. وظهرت مع بداية القرن الواحد والعشرين مشكلة الاحتباس الحراري. وتعامل المجتمع الدولي بمنتهى الجدية مع هذه المشكلة وخصصت لها لقاءات قمة ومؤتمرات حضرتها الدول الصناعية الكبرى في العالم. كما ظهرت شخصيات سياسية واعتبارية مرموقة في أفلام وثائقية وتوجيهية للدعوة إلى الحد من الاحتباس الحراري، مثل نائب الرئيس الأمريكي السابق آل غور وولي العهد البريطاني الأمير تشارلز.
وفي مقابل التصور ما بعد البنيوي وما بعد الحداثي للإكراهات التي يخضع لها الوعي الإنساني وعمليات الإدراك وتشكل المعرفة من قبل الخطاب المهمين على الفضاء الاجتماعي والثقافي ومؤسساته المتنوعة، قدم المفكر الألماني يورغن هابرماس ـ في سنوات صعود ما بعد الحداثة ـ تصوره عن ما يدعوه بالفضاء العمومي. فقد سعي هابرماس من خلال جهده الفكري المتميز إلى تجسير الفجوة بين عالم الأنساق والعالم المعيشي. ويشكل مفهوم الفضاء العمومي ـ وهو من اختراع الفيلسوف الألماني كانط ـ مفتاح الممارسة الديمقراطية في نظر هابرماس الذي عمم توظيفه منذ السبعينات من القرن الماضي. ويعرف الفضاء العمومي بوصفه دائرة التوسط بين المجتمع المدني والدولة، أي بين دائرة المصالح الخاصة المتعددة والمتنوعة والمتناقضة ودائرة السلطة الموحدة والمجردة. فهو الفضاء المفتوح الذي يجتمع فيه الأفراد لصوغ رأي عام والتحول بفضله وعبره إلى مواطنين تجمعهم آراء وقيم وغايات واحدة. فالتبادل العقلاني لوجهات النظر حول مسائل تخص المصالح العامة هو الذي يتيح فرز رأي عام. والرأي العام هو وسيلة المواطنين للضغط على الدولة". تكتسب مفردات مثل "الفضاء المفتوح" و"الرأي العام" و"التبادل العقلاني" أهمية بالغة في الخطاب الثقافي لبعد ما بعد الحداثة بشكل عام، وذلك لأنها تقف بالضد من مفردات روجت لها ما بعد الحداثة مثل "فضاء القوة والهيمنة" و"القهر والكبت والتهميش" و"المصالح الفردية المتطرفة" و"اللعب واللاعقلانية المطلقة". ويشدد هابرماس على أن المجتمعات الحديثة يجب أن تعمل على خلق نوع من الفضاء العمومي الذي يكون بمثابة منطقة وسط يتلاقى فيها العام والخاص ويتفاعل فيها الفرد مع الجماعة بشكل حر وعقلاني وبعيدا عن الإكراهات والقهر والعنف. وإذا ما وجد مثل ذلك الفضاء العمومي فان جميع مقولات فوكو وليوتار ودريدا حول عنف الخطاب والسرديات الكبرى والمعنى المرجأ إلى ما لانهاية وتعطيل فاعليات التواصل اللغوية ستنهار تلقائيا وتتلاشى.
تستعيد اللغة مع هابرماس ـ بفضل مفهوم الفضاء العمومي ـ قابلياتها في تحقيق التواصل والتبادل المعرفي وإنجاز شكل من أشكال الاتفاق خارج الحدود الضيقة للذات الإنسانية، وهذا ما يدعوه هابرماس بالتواصل البين ذاتي. يتفق هابرماس وزميله كارل أتو أبل مع الأطروحات البنيوية وما بعد البنيوية في التركيز على اللغة وبنيتها الداخلية والنشاطات اللغوية للأفراد داخل المجتمع بوصفها المحور الأساسي والمدخل العلمي الوحيد لدراسة الظواهر النفسية والاجتماعية والأنثروبولوجية. ولكنهما يرفضان الانغلاق والمحدودية التي هيمنت على الدراسات البنيوية وما بعد البنيوية في تصورها للغة. استعان الباحثان بنظرية (أفعال الكلام Speech Acts) لأوستن (Austin) والتي تتجاوز النظريات اللغوية التركيبية والنحوية والشكلية. فما نتلفظ به من خلال اللغة يتحول ـ حسب أوستن وسيرل ـ إلى فعل يؤثر في العالم الخارجي أو المحيط وينجز شيئا ما. وفي دراسة شهيرة حملت عنوان  (ما هي التداولية العالمية؟ What Is Universal Pragmatic?) نشرت عام 1976، أشار هابرماس إلى أن " فحص اللغة والكلام لن يقتصر فقط على دراسة الجمل من الناحية الصوتية والتركيبية أو الدلالية، بل يجب أن ننتقل إلى مستوى رابع وجديد يعنى بـ(تداولية Pragmatique) الأفعال والخطاب، بحيث لا نكتفي بالجمل لصالح دراسة تداول الخطاب ككل، أي الانتقال من دراسة الكفاية اللغوية (Competence Linguistique) إلى الكفاية التواصلية ". ويعني ذلك الانتقال من دراسة اللغة بوصفها بنية مغلقة ومنقطعة عن الواقع الخارجي تعوم فيها الدوال بحرية مطلقة مع غياب المرجعية الخارجية والارتباطات الشرطية بالمدلولات، إلى دراسة اللغة على أساس ما يتداوله الأفراد المتفاعلون في ممارساتهم المعيشية اليومية. ومثلما رفض هابرماس الانغلاق الشكلي والبنيوي على صعيد اللغة، رفض كذلك الإلغاء المطلق للواقع الاجتماعي عند ما بعد البنيوية. يذهب هابرماس إلى أن العلاقة بين العقل الفردي والمحيط الاجتماعي هي علاقة تبادلية تفاعلية. فلا يستطيع العقل تجاوز العقبات والإكراهات ولا تستطيع الطبقة أن تحل محل التاريخ. وبدلا من ذلك يدعو هابرماس إلى ما يسميه "بالعقل المزدوج" والحقائق المتوافق عليها. يتعذر على العقل المفرد الإحاطة الشاملة بالحقيقة، مثلما لا تستطيع الجماعة فرض خطابها بوصفه تعبيراً عن تلك الحقيقة، ولذلك تبرز أهمية التوافق والتواصل والنقاش الحر المفتوح حول قضاياها. فالحقيقة، كما يتصورها هابرماس، تتغير وتتبدل باستمرار مع اشتراطات وضرورات الحياة والفعل الاجتماعي. ولا وجود لحقيقية متعالية تموضع نفسها خارج التاريخ وتصادر جميع احتمالات التأويل والتفسير ووجهات النظر الأخرى.

إن تأكيد هابرماس على إمكانيات التواصل البين ذاتي ضمن الفضاء الاجتماعي العام وتصوره للغة القائم على أساس الأخذ بعين الاعتبار المستوى التداولي للخطاب، ويفرض تجاوز إشكالية التشكيك في جميع الأنظمة السردية كما روجت لها ما بعد البنيوية. فلم يعد من المفيد إعادة إنتاج وتداول مقولة دريدا الشهيرة "لا يوجد شيء خارج النص" والتي تجعل من محاولات البحث عن المصداقية والوثوقية والمعنى جهد عبثي لا طائل من ورائه. وفي المقابل يحضر تصور الفيلسوف الفرنسي البارز بول ريكور حول السرد والممارسة السردية وعلاقتها بالهوية والزمان والذات الآخر، تلك العلاقة التي طالما سعت ما بعد البنيوية إلى نفيها أو تقويضها.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة