لاس مينيناس: ما وراء اللوحة ، ما وراء القص

لاس مينيناس: ما وراء اللوحة ، ما وراء القص
في مقاله (لاس مينيناس) يكتب فوكو عن لوحة دييغو رودريغز فيلاسكيز التي تحمل العنوان نفسه: "أي مكان أفضل من لوحة لتبدأ نقاشاً عن الجمال؟" إذا سأبدأ من هنا مع تركيز على ما وراء اللوحة كنقطة انطلاق نحو الأدب. يصف فوكو اللوحة:
"الفنان ينظر الآن, وجهه يميل قليلا ورأسه ينحني نحو كتفيه. يبدأ الآن من نقطة , على الرغم من أنها غير مرئية, إلا أننا نحن المشاهدين نستطيع أن نحددها بسهولة, بما أن هذه النقطة هي نحن أنفسنا: أجسادنا, وجوهنا, عيوننا. المشهد الذي يدركه الآن غير مرئي على نحو مضاعف: أولا, لأنه غير ممثل ضمن فضاء اللوحة. وثانيا , لأنه مموضع بدقة في تلك النقطة العمياء في ذلك المكان المتخفي جوهريا, وفي الحقيقة فإن تحديقاتنا تضيع منا لحظة نظرنا إليه(4).
أثناء تحديقنا في الصورة نصبح نحن موضوع اللوحة على الرغم من أنها قد رسمت وانتهى الأمر.
بهذه الطريقة تكون (لاس مينيناس) دراسة خارج الزمان والأجسام الجامدة, التي تتغير مع كل متفرج, وفي الوقت نفسه فإنها تشغل حيزا من الزمان والمكان, يُعرض من خلال الرموز التاريخية في اللوحة أو من الممكن أن يكون موضوع اللوحة مريئا بذاته: ما بين كائن- اللوحة والمتفرج وكائن – اللوحة والفنان بالطريقة ذاتها.
 لاس مينيناس هي دراسة الما- بين. وكذلك ما وراء القص. فإذا كان ما وراء اللوحة هو لوحة عن اللوحة وجلاء اللوحة، وبكلمات أخرى, بناء اللوحة وكيفية تركيبها, فإن ما وراء القص هو كتابة عن الكتابة وبالمثل قراءة عن القراءة. في ما وراء القص نكون, نحن القراء , ذات النص على الرغم من أنه قد كُتب. وبالأحرى ذات النص تقرأ نفسها: "ما بين كائن –النص والقارئ. وبالطريقة نفسها, تكتب الذات الآن: "ما بين كائن- النص والمؤلف. إن ما وراء القص هو دراسة "الما-بين":
""لكن, في الوقت نفسه, فإن ما وراء اللوحة هو دراسة الإزدواجية أو التضعيف", يقول فوكو عن لاس مينيناس " لا يوجد تحديقة ثابتة, وعلى الأصح, في الثلمة المحايدة من النظرة المتفرسة الثاقبة عند الزاوية اليمنى عبر قماش اللوحة, تتبادل الذات والشيء, والمتفرج والموديل، أدوارهم إلى ما لا نهاية"(5). يتابع قائلاً:
" نحن نرى أنفسنا مرئيين من قبل الرسام. يجعلنا نصب عينيه بذات الضوء الذي يمكننا من رؤيته. وفي اللحظة التي نوشك فيها على إدراك أنفسنا, مُشكلين بين يديه كما عبر مرآة, نجد أننا لا نستطيع أن ندرك شيئا من تلك المرآة إلا خلفيتها المظلمة. الجانب الأخر من النفس"(6).
 لا نستطيع أن نرى أنفسنا ونحن نُرى الآن ـــ على الرغم من أن هذا هو الموضوع المشبع بالتوتر في لاس مينيناس, ولهذا فإن اللوحة حركة مستمرة للتبادلية ". انقلاب مستمر بين فعل النظر الذي قد حدث ومواصلة النظر من أجل التقاط الرؤية ولكن الرؤية بطبيعتها وبوصفها "الما-بيني" لا يمكن أن تُلتقط, إنها سلسلة أشياء مترابطة, تدور حولها الذات والشيء, ولذلك فإن الجلاء أو الوضوح هو: الانفصام في لحظة التوحد. نستذكر هنا كلمات موريس ميرلو مونتي في "العين والعقل":
" لا استطيع أن أحدد أين انظر في اللوحة لأنني لا أنظر إليها كما ينظر شخص إلى شيء. مثبتا إياه في مكان. نظراتي المتفرسة تتجول فيها بوصفها هالة الكينونة وبدلا من رؤيتها, تراني أنظر معها أو من خلالها "(126).
الرؤية لا تصنع الموضوع بعيدا عن الرائي وعن باعث الفن. هذا الانقلاب في الرؤية يدحض الديناميكية في السلطة والموضعة والتشيئ عن طريق تقويض الأفكار الأساسية عن الذات والشيء. وبهذا فإن ما وراء اللوحة يدعونا للمشاركة في إنتاجها, من حيث كونها فنا وعملية، بدلا من ترسيخ حالتها بوصفها شيئاً أو كائنا.
هكذا الأمر في ما وراء القص. لا نستطيع أن نقرأ أنفسنا بينما نحن نقرأ , على الرغم من أن ما وراء القص يحاول أن يفضح هذا الفعل إلا أنه أيضا حركة مستمرة تبادلية بين القراءة وما يتم قراءته, لأجل التقاط القراءة ذاتها. هذه بالضبط هي السلسلة المترابطة التي يدور حولها القارئ والنص, وتبعا لذلك , فإن القراءة هي انفصام في لحظة كونها اتحاد. لا يمكننا تحديد الشيءobject والذات subject بعيدا عن بعضهما. لذلك فإن القارئ والنص في الانقلاب ذاته المتواصل بين الاثنين. ولذلك نستمر ونواصل. هذا هو جمال ما وراء القص. إنه يبعد الألفة عن فعل القراءة ( والكتابة) المألوف من خلال فضح فعل القراءة بوصفة ال( ما-بين) الذي ينتج التضعيف, فهو يفصل القارئ عن النص ويوحده معه في الوقت نفسه وبدوري أقول أن هذه الحركة ليست خاصة للقراءة عن القراءة والكتابة عن الكتابة, ذلك أن ما وراء القص يعمل بصراحة وبالقدر ذاته الذي تعمل فيه بقية النصوص ضمنيا ليس أكثر, لذلك فإن ما وراء القص أصبح سمة وليس نوعا.
يعرف قاموس أوكسفورد الانجليزي ما وراء القص:
" الرواية التي يبرز فيها المؤلف عن وعي زيف وأدبية العمل بالتهكم من/ أو الانحراف عن التشريعات الروائية وتقانات السرد. وباختصار فإن ما وراء القص يعلن عن نفسه بوصفه نصا من نتاج بشري صناعي ويفحص الطبيعة الخاصة للرواية من خلال الرواية".
هذا تعريف مقبول على العموم بالرغم من أن هناك كثيرا من النقاش حول ثباته. إذ تلاحظ ليندا هتشيون أنه" لا يوجد محاولات لعرض نظرية شاملة حول ما وراء القص. في المقام الأول فإن أي نظرية من هذا النوع ستكون مختزلة, أكثر اختزالا من أي نظرية حول الرواية عامة. هذا لأن غرض رواية ما وراء القص أنها تتضمن تعليقاتها النقدية الأولية الذاتية. وبفعلها هذا, فإنها ستكون جدلية, تضع الإطار النظري للمرجعيات التي يجب تناولها من خلالها"(6). وبدلا من النزاع مع النقاد الآخرين حول الخطأ والصواب في التعريف, يبدو منطقيا أن الحل يكمن في يقظة اللغة، مع ملاحظة أن اللغة نظام غير مستقر للمرجعيات، بدلا من كونها نموذجا مضبوطا للمعنى.
 وحيث أن ما وراء القص يتشكل من ومع الكلمات, فلا بد لنا من العودة إلى كلمة ما وراء القص الانجليزية(ميتا فكشن) [metafiction =meta- + fiction] نفسها, هنا نجد أن لدى قاموس أكسفورد الانجليزي الكثير ليقوله:
" في التصاقها بكلمة fiction, " فإن البادئة ميتا meta- تعني دراسة موضوع " ما وراء, فوق, أبعد من, أعلى مستوى " أو دراسة " تطرح تساؤلات تتجاوز طبيعة المعرفة الأصلية" والتي هي في هذه الحالة الرواية ".
 انظر إلى هذه الحروف الأربعة تحديدا m-e-t-a عند ارتباطها بكلمة أخرى مثل: metamorphoses"".. هنا, الحروف الأربعة البادئة أصبحت إشارة إلى التغيير, أو التحويل, أو التبديل والإحلال. القص " "Fiction" هو" عملية التنميط أو المحاكاة ". يقودنا هذا إلى الجماليات. ينفصم التقليد أو المحاكاة إلى نظريتين للعرض: الأولى فكرة الانعكاس ـ نسخة طبق الأصل عبر الفن , بحيث يصبح الفن كليشيه ـــ صدى المألوف. أما العرض الآخر فهو أن المحاكاة هي إعادة عرض, يقوم فيها الفن بإعادة عرض العالم المألوف، بوصفه غير مألوف، بدلا من كونه كليشيه. الفن هنا يصبح نقدا. وربما كان الفن تذبذبا بين الكليشيه والنقد, تلك الحركة التي تفضح طبيعة الصيغتين.
من كتاب(جماليات ما وراء القص:دراسات في رواية ما بعد الحداثة)

تعليقات

المشاركات الشائعة