النسوية وما وراء القص.

النسوية وما وراء القص.
النسوية: هي نظرية المساواة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. تنسب ولادة النظرية إلى مؤتمر سينيكا فول في عام 1848. وحد هذا التجمع قوى المناهضين للتميز العنصري والنسويين لمناصرة التساوي في الحقوق للجميع. في ذلك العشرين من يوليو صدر إعلان العواطف "Declaration of Sentiments", وهو نص يشبه إعلان الاستقلال مع تضمين النساء والأقليات. كان ذلك بمثابة إلقاء حجر في المياه الراكدة لتتكون موجة أصبحت تيارا في مجتمعنا الحديث, كما أصدرت الكاتبة شارلوت بيركنز جلمان مقالات حول كيف يمكن للمرأة أن تعيش وحيدة في سلسلتها "المرأة والاقتصاد "عام 1898.
أعادت حركة "حق الاقتراع للنساء" توحيد النساء حول القضية, وجدت النساء صوتا يساند مطالبهن الصامدة بالحقوق المتساوية, بما فيها حق التصويت. وخلال هذه الانتفاضة جمّعت النساء قوى الحركات السياسية المشابهة المجاهدة من اجل حقوق متساوية لكل البشر , ومن هنا بدأت الكتابة النسوية تأخذ شكلاً. ملئت صفحات النصوص النسائية بإرشادات عن كيفية العيش خارج خيارات الزوجة والأم والعانس أو العاهرة. تقوضت تلك الحدود واكتسبت النساء الحق في التصويت والملكية الخاصة والعمل وفي طلب الطلاق. كما أضفيت صفة الذاتية على فكرة المساواة الاجتماعية.
لم يحدث من قبل أن كتبت نساء بأسمائهن بمثل هذا الكم. ولم تركز كتابتهن على الصعوبات الجديدة وإنما عن كيفية التعامل والتحايل على البطريركية.
بالنسبة لكثير من الكاتبات, فإن قيود الواقعية والحداثة خانقة بالقدر نفسه كما البطريركية التي يحاولن إزاحتها.
وبالاحتماء تحت مظلة ما بعد الحداثة , امتلكت الكاتبات الحرية في توظيف فسيفسائيات ما بعد الحداثة ببراعة وذكاء مذهل , ورغبة صاعقة في تحدي النظم الإيديولوجية لما يعرف بالأمر الواقع. ينتحل كتاب ما بعد الحداثة الذين يوظفون وجهات النظر النسوية الأنواع السردية المتأصلة ويعيدون كتابتها لإلقاء الضوء على القدرة البطولية النسائية.
في (امرأة على حافة الزمن)، تأخذ مارج بيرسي رواية الخيال العلمي التقليدية، وتبرز الأنثى البطلة والرجل النمطي. الشخصيات الذكورية ـ عند بيرسي ـ حمقاء وخطيرة وشريرة. إنهم يؤيدون البارادايم المؤسساتي الخانق متسببين في الموت الروحي للبطلة، كونسويلو - الملقبة كوني. تركز بيرسي على نظم إسكات المرأة وتعطي لبطلتها صوتا للتمرد على تلك النظم.
قد تكون الظروف الزمكانية ملجأ، ولكن الخيار يترك للقارئ للاعتقاد إما بقوة كوني لاحقا، وبالتالي ارتحالها الزمني مع الناشطة النسوية لوزنت, أو باحتمال جنونها. تدرج بيرسي قضايا العنف المنزلي والحياة كأقلية والفقر التي يؤثر على كثير من النساء. من غير الواضح ما إذا كانت كوني على استعداد لمحاولة إعطاء تفسير للغير المؤمنين بالعالم الطوباوي الذي رسمته مع لوزنت، مما يترك للقارئ حرية استجواب مفاهيمها الخاصة وتجاربها.
مظهر آخر للنسوية يركز على ذكاء المرأة البطلة. لقد انتقص قدر المرأة عبر التاريخ بوصفها خادمة للرجل أو مما ملكت يمينه أو حصان الأشغال الشاقة كما في رواية مارك توين أو مستغلة جنسيا بوصفها عاهرة كما في رواية نورمان ميللر الأجساد العارية والموتى.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد ففي رواية (دراكولا) لبرام ستوكر، تكون النساء عدوات حتميات لأنهن متهمات دائما وبالتالي سيلطخن أحبتهن. عندما تعطي الكاتبة النسوية بطلتها صوتا، تنبثق الرواية الأخرى المدهشة، مثل صوت جو القوي واستقلاليتها في رواية(المرأة الصغيرة) للويزا ماي الكوت أو بسالة اماريليز في رواية جلمان ( جمالها).
يختل توازننا، بوصفنا قراء، ذلك أن معظم النساء افتقرن تاريخيا إلى أي نوع من التعليم الرسمي أو حتى القراءة, لذا لم تكن هناك أي مطالب بشخصية نسائية قوية وقليل من استطاع أن يخلق مثل هذه الشخصية. وبالتالي, فإنها عندما تمنح صوتا، تشد الانتباه إلى نفسها وإلى السنوات الطويلة من الظلم حين تجاهل المجتمع نساء ذكيات وكمم أفواههن.
انتحل الكتاب النسويون النظام البطريركي المعياري للهرمية وقرصوا أذنه. وتماما كما سلطت بيرسي الضوء على رواية الخيال العلمي وأغلال المؤسسة الفكرية , فضحت مارغريت اوتوود التشريعات الدينية, وقيمة المرأة المرتبطة بخصوبتها في رواية (حكاية وصيفة). في رحلة الخيال العلمي هذه, نجد قيمة المرأة واستحقاقها للإجلال مرتبط برتبة زوجها العسكرية وخصوبتها. أما أولئك اللواتي جربن حرية تحديد النسل أو الحق في الاختيار, فقد تعرضن للإدانة العلنية بل وربما للاضطهاد أو الإعدام بوحشية.
ومن المخيف أن ندرك كيف أن هؤلاء النسوة في الروايات، وغالبا ما كن أستاذات وفنانات ومهنيات فقدن مكانتهن في المجتمع بخبث لتحل محلها المكانة المتعارف عليها اجتماعيا . ولكن مع تصوير أوتوود القارس للعالم، فإنها قد أنتجت بطلة نسوية، عرفت فقط باسم اوفرد، وهي ذكية وجريئة، قاسية، وبارعة. وظفت منصبها الصغير للتنقل بين عوالم الصمت والاغتصاب والجريمة والقوانين والسلوك من أجل فك رموز النظام ثم....الهرب في نهاية المطاف.
وكما يشدد كتاب ما وراء القص على القواعد السخيفة المقبولة للشكل واللغة، فإن النسوية تعيد هيكلة نظم عفا عليها الزمن وتناضل من أجل المساواة، والتنقيب عن نظم لغوية أيضا تتشظى بعيدا عن الافتراضات المعرفية.
النسوية عند أنجيلا كارتر:
ولدت أنجيلا كارتر في منتصف الحرب العالمية الثانية عام 1940 الأمر الذي ترك أثرا واضحا على إدراكها وكتاباتها, ذلك أنها عاصرت موجة النسوية العارمة التي تزامنت مع الطفرة الإنجابية. وعلى الرغم من أنها بريطانية بالولادة , إلا أنها تنسب الفضل في ثقافتها المتنورة إلى عدم الاستقرار الذي فرضه واقع ما بعد الحرب. صنفها النقاد كاتبة نسوية بسبب قوة شخصياتها حتى قبل أن يصنفوها كاتبة ما بعد حداثية. هذا التحول الذي جاء عندما بدأت كارتر التجريب في الحكايات الخرافية.
تقذف النسخة الجديدة التي وضعتها كارتر عن الحكايات الخرافية بشخصياتها إلى القرن العشرين لكنها تبقي على ملامح كافية من الشخصية التاريخية لتبرز الدوافع الأصلية لهذه الشخصيات. أثارت مجموعتها الأولى عن" الخرافات مشروخة" والتي تحمل عنوان " المخدع الدموي" (1979) الاهتمام عندما سلطت الضوء على الطبيعة الايروسية لتلك الحكايات القديمة (Garret 414). تتضح الايروسية هنا من القدرة على كتابة " سرد يمزج مثل هذا الجمال الذي نعشقه بالرومانسية متناسيا الاميرة (Sintow 35).
لا تكمن قدرة كارتر في فضح الجنسية الكامنة في الحكايات فحسب، ولكن في الالتفات إلى المقاطع الانتقالية في قصص الأحلام التي تحلم، والفقرات التي تقرأ كما لو كانت "مقالات"، والجمل من قبيل " بجعات برية تحولت إلى عربات تجرها الخيول"(Ordenky 72).
يسلط عبث كارتر وتحويلاتها الضوء على تفجر اللاوعي حيث الجميلة "تقع في حب الوحش بوصفه وحشا" (Sintow 316) والصغيرة ذات الرداء الأحمر التي "تنام فيي سرير الجدة، بين مخالب الذئب اللطيف" (Carter, Chamber 118). دائما ما تنتصر الشخصيات النسائية عند كارتر، وغالبا ليس على طريقة السعادة الدائمة، وإنما نهاية لذيذة تعرض الاستقلالية والحدود التي يمكن تحديدها.
تدعم هذه النهايات نسويتها, كما تدعم محاكمتها لمجتمع يميز الجميل ويعاقب القبيح. إنها أيضا تعرض رغبتها في استبدال البطلات المائعات البلهاوات بأخريات قويات و ذكيات(Oates 7).
ترسم كارتر شخصيات بطلاتها القويات لينبذن " الصورة النمطية الثقافية للأنثى , خصوصا تلك البريئة والمسالمة والفارغة العقل والمثيرة, لصالح شخصيات نسوية تتميز بالحسم والجسارة الجنسية.
في كثير من الأحيان تسلط كارتر الضوء على التقاليد الأبوية التي تحكم على المرأة بالتبعية. حيث تعرف المرأة بوصفها نقيض صورة الرجل. وفي الاختلاف الجنسي، لا تعرف عدمية المرأة إلا من خلال شيئية الذكر. فالخرافة التقليدية مثقلة بالذكورية والرغبة في أن يكون الذكر هو من يعرف الأنثى أولا، ثم ينقذها، ذلك أنها لا يمكن أن تعرف نفسها بدقة على الإطلاق بعيدا عن رجل. إن الجمال , في الحقيقة، شيء ذاتي بحت، وغالبا لا يكون أكثر من مجرد انكسار الضوء على المرآة. لكن المعايير الذكورية تشوه انعكاس الرؤية الذاتية عند المرأة. تصرفات كارتر في رواياتها هي بمثابة المنشور الذي يلوي هذه الانعكاسات الملطخة ويحولها إلى ثقة ذاتية.
وفضلا عن الجنس المهذب والشخصيات النسوية القوية , فإن كارتر تمتلك صوتا متفرداً وصفه تشارلز نيومان" بأنه أدبي غزير الاطلاع دون تكلف وعميق دون استهتار، غير مبال بالصيغ التقليدية دون أن يكون تجريبيا مجردا , ساخر دون سطحية أو قسوة " (1).
حدثت كتاباتها الخرافات القديمة المنتحلة. تقول كارتر "يميل كل عصر إلى أن يخلق أو يعيد اختلاق أساطيره وخرافاته تبعا لأسلوبه وعصريته" (Carter, Sleeping 126).. لذلك فن إصدارتها الحديثة عن الحكايات القديمة ليشت سوى مرايا تساعد المجتمع العصري على عكس صورته. ولكن ما حدث هو أن نظرتها جاءت من خلال زجاج النسوية مما منحنها تأملات متفردة.
اثبت كارتر في قصتها (المخدع الدموي) قدرتها على تخطي المعايير دون الابتعاد عن الحكاية الشعبية.تناولت كارتر بإنسانية خرافات مثل " الجميلة والوحش وذات الرداء الأحمر والخبز الأزرق.
 في قصتها (عروس النمر) اهتمت كارتر بوجهة النظر الأبوية البطريركية عن المرأة والتي ظهرت جليا في تناولها لحكاية الجميلة والوحش الخرافية. هنا تقرر كارتر أن للجمال استحقاقات ولذلك رغب الوحش في الجميلة. ولكن بدلا من أن تكون الجميلة زوجة تشبع رغباته البهيمية , فقد أراد أن يراها عارية من ثيابها. لا تأتي بصمات كارتر الساحرة إلا بعد أن تحرر الفتاة (Chamber 58). تساوم الجميلة الوحش في أن يحفظ لها حياؤها حتى تلبي له رغبته, إلا أن الوحش يرفض التسوية. وفي وقت لاحق عندما تحررت من مأزقها, تأملت حياتها قبل الوحش وقررت أن ترسل إلى والدها إنسانا آليا يشبهها تماما ليتمكن والدها من ممارسة دور الأب على ابنته((Carter, Chamber 65.
قرار الجميلة في أن تخدع والدها وتبقى مع الوحش كان أول قرار استقلالي لها , ونتيجة لذلك , فقد سلمت نفسها للوحش طواعية ,الذي قرقر في البداية ثم لعق الجسد العاري بلسانه المصنفر الكاشط. كان يكشط طبقات من الجلد واحدة بعد الأخرى في رمزية مثقلة بالدلالة "كل جلود الحياة في هذا العالم " حتى بزغت طبقة وليدة من شعر لامع ". عندها تحولت الجميلة إلى وحش ولم يتحول الوحش إلى أمير كما كان متوقعاً(Carter, Chamber 67). طوحت كارتر بالصورة النمطية الخانعة للجميلة وحشرت, بدلا منها, صورة امرأة جسور جريئة مستعدة للتعامل مع رغباتها و حياتها الجنسية بطريقتها الخاصة.
يميز هذا النوع من التحويلات أعمال كارتر ولذا فليس من المدهش أن تتحول الفتاة العاجزة في شركة الذئاب إلى شخصية قوية ناضجة تمتلك خياراتها. وبينما تكون الفتاة في قصة ذات الرداء الأحمر التقليدية مرتعبة من ذئاب الغابة , فإنها في قصة كارتر تدرك " إن الخوف لم يجلب لها سوى المتاعب, لذا فإنها تقاوم خوفها " (Carter, Chamber 117) وعندما تجتر شخصيات الحكاية الاسطوانة المشروخة " لماذا أسنانك كبيرة...لآكلك بها " تنفجر البطلة بالضحك في وجه الذئب لأنها تعلم أن لحمها ليس للأكل .(Carter, Chamber 118) وتدرك أن الذئب لا يشتهي لحمها بل جنسها. تزن الفتاة خياراتها ثم تقذف ملابسها بطريقة احتفالية نحو المدفأة, وفي حفل زفافهما الهمجي نرى الفتاة تجر رأس الذئب إلى حضنها وتفلي رأسه من القمل(Carter, Chamber 118). هنا أيضا تعرض كارتر بطلة ذكية لا تخجل من لحمها وقادرة على تفتيت النزوات البطريركية التي تتواجد حكايات الماضي من خلال أدوار البهائم المحتاجين والذئاب المرعبين. في اصدارها الحديث عن (حكاية الخبز الأزرق) تعرض كارتر الذكورية الخطيرة المرعبة كما دائما ولكن البطلة هنا لن تتمكن من تدجين الذكر فتقرر الهروب من قلعته المنعزلة ومحوه من ذاكرتها.
تنقل كارتر خبرتها عن الوحش إلى قرائها الذين يتعاطفون مع قلقها وخوفها وإشفاقها عند مقابلة الرجل الذي قد يقبل الرهان على ابنته. للوحش ملامح خرقاء غير متجانسة وقيد عرضي شاذ وضعه باختياره حتى يحتفظ بانتصاب قامته ولا يهوي على أربعته وقناع مرسوم عليه وجه رجل وسيم يضعه على وجهه , من هنا بدأت الجميلة تعي إدراكها الذاتي وإدراك الآخرين.
مثل أي كاتب ينزلق في منعطف ما بعد الحداثة, يتوجب على كارتر اختيار مسرحها الذي ستعرض عليه بطولاتها. لقد اختارت أنجيلا كارتر توظيف شخصياتها النسوية لهذا الغرض ولغرض المطالبة بالمساواة في كثير من حكاياتها الخرافية الرائعة.
من كتاب(جماليات ما وراء القص:دراسات في رواية ما بعد الحداثة)
اعداد وتقديم وترجمة: أماني أبو رحمة.


تعليقات

المشاركات الشائعة