مالذي نعنيه حين نقول (التمركز حول اللوغوس)؟



مالذي نعنيه حين نقول (التمركز حول اللوغوس)؟

أماني أبو رحمة
في مقدمة "المارقون" يُصدر دريدا مناقشاته بسطرين من حكاية لافونتين الكلاسيكية "الذئب والحمل": "منطق الأقوى دائما هو الأفضل، وسنوضح ذلك حالا". تأسر العبارتان دريدا لأنهما تلخصان "خطابا أخلاقيا اسطوريا " مفحماً في قلب كل الأسئلة المتعلقة بالقانون والعدالة، والسيادة، بالطبع.
"هل أن هذه أخلاق تعلمنا أن القوة تنتصر على القانون؟ أو شيئا آخر مختلف تماما، إن مفهوم القانون، إن المنطق الاعتباري نفسه، يشمل بداهة اللجوء الممكن للقيد أو الإكراه، ولحد معين العنف"؟ تشير هذه الأسئلة إلى أن دريدا قد بدأ يهتم بعد الحادي عشر من سبتمبر أكثر وأكثر بدور العقل reason في الخطابات السياسية ـــ ـليس بالضرورة العقل نفسه، ولكن بقضية من صاحب المنطق الأعلى صوتا. السيادة هنا ليست لاهوتية فحسب، ولكنها تتميز أيضا بالارتباط غير المتعارض بين قوة الحيوان والعقل. بالنسبة لدريدا، فإن حكاية "الذئب والحمل" أفضل مثال على هذا الارتباط. فالذئب في القصة يبرر الاستبداد بالقوة على الحمل ويقدم مقارنة بين الوحش (الذئب) والسيادة. وعلاوة على ذلك، فإنه يعلن عن أن "مشكلة السيادة"، هي مشكلة قوة "لأنه لا غنى عنها من أجل ممارسة الحق ولأنها متضمنة في مفهوم الحق ولأن من شأنها أن تعطي الحق أو أن تجد الحق، وأن تمنح القوة مقدما مبررها ومنطقها"
 دعونا نتأمل هذا التشبيه بين الوحش والسيد و"مشكلة السيادة" بالمقابل. بالنسبة لدريدا، فإن العلاقة بين الوحش والسيد موضوع يتكرر في الفلسفة السياسية، وخاصة في العصر الحديث. متتبعا تقليد الفكر السياسي منذ أرسطو، يدعي دريدا، في الوحش والسيد، أن الإنسان لا يُدرك
بوصفه حيوانا سياسيا فقط، ولكن بوصفه انسانا سياسيا يتفوق في سيادته على الوحش الذي يسيطر عليه، ويشبهه، في الوقت ذاته، في مظهر سيادته السياسية. لدعم هذا الادعاء، يشير دريدا إلى المفكرين السياسيين من امثال روسو وهوبز ومكيافيلي الذين طرحوا التشابه بين السيادة السياسية والوحش بشكل واضح، ليخلص الى نتيجة : إن السيادة، مثلها مثل الوحش "خارج القانون" حيث "الخارج" يمكن أن يعني "على مسافة من" او "أعلى "، أو أنه يشير إلى المكان الذي" لا يظهر فيه القانون، أو لا يحترم، أو ينتهك ". توضح هذه المناقشة أيضا أن السيادة مثل الوحش لأنه يستخدم القوة لتأكيد منطقه. هذه هي "مشكلة السيادة" المثارة أعلاه، السيادة التي "تعطي سببا مقدما لتوظيف القوة ". هذه المشكلة، كما يقول دريدا في( المارقون)، تعمل من خلال تقليد كامل من الفكر السياسي يربط الحق والعدل بالقوة.
والسؤال الذي يطرح نفسه، ثم، ما هو نوع العقل الذي ساقته السيادة؟ هل هو العقل في حد ذاته؟ هل هو"منطق الأقوى" الذي "هو دائما الأفضل" كما يقول لافونتين؟ وهل أن "الأفضل" هنا تشير إلى حق أو حقيقة؟ يتناول دريدا هذه الأسئلة في (الوحش والسيد )من خلال مناقشة كيف تصور التقليد الغربي المعرفة والعقل، وبتعبير أدق، سلطة اللوغوس. تبدأ تأملاته من الفرضية القائلة بأنه "ربما" أن مسألة "الوحش والسيد" هو تحريض على المعرفة وعلى وجه الخصوص "معرفة حدود المعرفة". يلاحظ دريدا أن تلك المعرفة، في التقليد الغربي، قد مثلت بوصفها سيادة وبالتالي ذات قوة طاغية.
يشير دريدا بشكل حاسم إلى فكرة أفلاطون عن الخير في (الجمهورية). في (المارقون)، يلاحظ أن فكرة الخير هي سبب القدرة والقوة (dynamis) البشرية على المعرفه. ويستعيد المقطع الشهير الذي يرسم فيه أفلاطون ــــــ بعد توظيف مفردات: " القوة والقدرة (dynamis)"، "ملك (basileus)" و "سيادة (kurion)" لـتوصيف العقل والشمس والخيرــــ فكرة الخير بأنه " القوة المتجاوزة (dunamei huperkhontos)" تلك التي "ما وراء الوجود" (epekeina TES ousias) والتي تولد المعرفة دون أن تكون نفسها خاضعة للنشوء". بالنسبة لدريدا، يحفز هذا التوصيف فهم المعرفة بوصفها سيادة لأنه ينسب إلى فكرة الخير "سلطة سيادية مطلقة " ـــ تمنح منطقا أوتثبت أن المنطق سليم ـــ تتغلب على كل شيء ".
من ناحية أخرى، يمثل هذا التوصيف المنطق بوصفه "المنطق المعطى" من قبل السلطة السيادية. وهذا ما توحي به حكاية لافونتين ضمنا: المعرفة، مثل المنطق، قوة تنتمي إلى الأقوى. يكمن مغزى المعرفة بوصفها سلطة سيادية بالنسبة لدريدا، في قدرتها على وضع حدود. وعندما يتحدث عن هذه المسألة في الوحش والسيد، يؤكد أن ما هو على المحك "بين الوحش والسيد، هو مجرد مسألة الحدود، ومعرفة ما إذا كان الحد قابل أو غير قابل للتجزئة"، وهو ما يعني معرفة ما هو الحد وما هو مصدره". إنها بكلمات أخرى "مسألة البدء أو الاستهلال أو الأصل الأول arkhē" وهو ما يعني " البدء والتكليف معا""وبالتالي " شخصية السيادي ذاته ". ولتوضيح قضية البدء أو الاستهلال، ينظر دريدا في الأديان الابراهيمية والمصادر الفلسفية اليونانية بوصفها مرتكزات التقاليد الأوروبية التي تتعامل مع البدء والتكليف. فسفر التكوين وإنجيل يوحنا - كلاهما يماهي البدء أو الأول مع أصل العالم المخلوق من قبل الرب (الاله) السيادي، مع فارق أن انجيل يوحنا يحدد البدء بوصفه لوغوس الاله الذي يخلق حياة الكائن الحي (الزوي) - يركز دريدا في الغالب على مناقشة أرسطو للوغوس والزوي في"السياسة" وعلى نوع إشكالية اللوغوس اليوناني. ويلاحظ أن أرسطو يربط اللوغوس بالسياسي على وجه التحديد باتباع أسلوب يعود إلى الاستهلالات أو البدايات وكيف يتم "تطوير الأشياء من أصلها [ex arkhē] ". يتصور أرسطو الإنسان كحيوان عقلاني (animale rationale or as zōon logon ekhon) قادر على التفكير (اللوغوس) وكما أنه "كائن حي سياسي بطبعه". وبهذه الطريقة، يدعي دريدا، أن أرسطو يعرف بضربة واحدة كل من الانسان والسياسية من حيث اللوغوس : "الإنسان حيوان سياسي لا تنفصم عن تعريف الإنسان بوصفه يمتلك اللوغوس ". وفقا لدريدا، فإن المشكلة مع وجهة نظر أرسطو ليست في جمعة بين السياسة وقدرات الإنسان العقلانية. بل أنه يتفق مع هذا الرأي في (المارقون) حين يربط الديمقراطية بالعقل والقدرة على
النقد الذاتي. المشكلة في تصور أرسطو تكمن في فهمنة اللوغوس بوصفه العقل وفي الامتياز الحصري أن التحديد الخاص للعقل قد تـم منحه من أجل إقامة حدود للإنسان والحيوان والسياسية. وبالعودة الى تأملات هيدجر عن جوهر الإنسان في "مقدمة في الميتافيزيقيا"، يذكر دريدا كيف يرى الفيلسوف الألماني أن تحديد الإنسان بوصفه (حيوانا عقلانيا) يعني أنه "حيوان" يرتبط باللوغوس المحدد قسرا على أنه العقل.
 يتجاهل مثل هذا التحديد المعنى الجدلي للوغوس ويعتمد على أساس لا جدال فيه وهو بالتحديد الجوهر عير المكتشف وجوديا لمعنى "الحياة" ومعنى " أن تكون حيا". بالنسبة لدريدا، فإن نقد هيدجر، يستجوب تعريف أرسطو للإنسان واللوغوس من خلال كشف الافتراضات غير القابلة للتحديد حول ما الذي قد يعنيه "اللوغوس" و"الحياة". كما أنه يسلط الضوء على طريقة عمل الفهم التقليدي للوغوس منذ أرسطو. نقطة نقد هيدجر كما يلاحظ دريدا، هي " في الحقيقة مسألة الفرض العنيف لسيادة اللوغوس بوصفه العقل والفهم والمنطق. إنها مسألة قوة العقل التي تتغلب على أي تفسير آخر أو عدة تفسيرات أخرى أو طرق تحقيق اللوغوس ". وبعبارة أخرى، مسألة الترجمة القسرية التي أصبحت مهيمنة بعد "صراع قوى حدث أن فاز فيه اللوغوس بالقوة".
هذا هو المعنى الذي تحدث به دريدا أيضا حول التقاليد الأوروبية بوصفها متمركزة حول اللوغوس. "التمركز حول اللوغوس "... مخصص في استخدامي دائما لتعين الهيمنة القسرية ؛ فرض الهيمنة بالقوة، ولا يعني فقط سلطة اللوغوس بوصفه الكلام، اللغة -التي هي بالفعل تفسير - ولكن أيضا الدلالة على العملية التي، أود أن أقول بشكل صحيح "الأوروبية "، التي تجمع التقاليد الانجيلية... ثم التقليد الفلسفي: وبشكل عام الديانات التوحيدية،الديانات الإبراهيمية، والفلسفة. هذا التمركز حول اللوغوس في الديانات الإبراهيمية والفلسفة يدل ليس على أن اللوغوس مركز كل شيء ببساطة، ولكن أنه كان في وضع الهيمنة السيادية، على وجه التحديد، وتنظيم كل شيء على أساس تفسيراته (ترجماته) القسرية. يمثل هذا المقطع تتويجا للمقارنة بين الوحش والسيد ويوضح لماذا تمت مفهمة السيادة بوصفها سلطة تقرير المصير التي تجمع بين القوة والعقل. صاحب السيادة، مثل الوحش، يستخدم القوة لتأكيد نفسه. ومع ذلك، وعلى عكس الوحش، فإنه "يعطي سببا مقدما للقوة" من أجل فرض التفسيرات التي ستصبح مهيمنة. لا تنجح هذه العملية عندما يكون العقل والقوة يعارض بعضها البعض ولكن عندما تكون "القوة إلى جانب العقل وتتعداه قليلا مثل "منطق الأقوى" في حكاية لافونتين. وبهذه الطريقة، فإن "منطق " السيادة لا يعين "السبب المعطى" فقط ولكن أيضا الحق الذي يمتلكة السيادي للحكم على عدالة وشرعية وانتشار " السبب الذي قدمه لأنه هو الأقوى ".


تعليقات

المشاركات الشائعة