غادامر: التأويل والتحام الآفاق.

غادامر: التأويل والتحام الآفاق.
أماني أبو رحمة.
 يهتم التأويل ( الهيرمنيوطيقا) بفلسفة التفسير والترجمة interpretation، الذي كان موجها في البداية نحو تفسير النصوص. وعلى الرغم من أن أصوله تضرب بعيدا في العصور اليونانية القديمة، الا ان "التقدم في صياغة مناهج التفسير انتظر حتى عهود الإصلاح والهجوم على احتكار سلطة الكنيسة لتفسير الانجيل" وهكذا، كان التأويل فرع اللاهوت الذي يتناول على وجه التحديد تفسير الكتب المقدسة ولكنه توسع أبعد من التفسير النصي ليشمل التفسير اللفظي (الخطاب) وغير اللفظي (السلوك). في الواقع، يعتبر غادامر أن القانون يمتلك "أهمية مثالية" في تطوير تفسيره ما بعد الرومانسي الذي تجاوز الاختلافات المنهجية التي حاولت تحديد القصدية ( الحرفية، وسوء الفهم، والقاعدة الذهبية) للمؤلف.
التأويل عند غادامر تحرك  بطريقة مماثلة لتلك التي سنها معلمه هايدغر. ومثل مفهوم هايدغر الحصافة والحكمة العملية phronesis على سبيل المثال، الذي يؤكد وجودنا العملي في داخل العالم being-in-the-world وتحديد وضعنا الملموس بوصفه وضع المعرفة، فإن غادامر يوظف بالطريقة ذاتها هذا القذف الهيدغري الى العالم Thrownness (German: Geworfenheit) لدحض قدرة أي اسلوب تفسيري على تجاوز موضعيتنا situatedness الضرورية. بالإضافة إلى ذلك، فإن نهجه الحواري، والذي فسر لاحقا بوصفه انصهار الآفاق، هو بالأصل من تأثيرات هايدغر. وهكذا قاوم غادامر محاولة هيكلة طريقة خالدة للتأويل وكان مفتونا أكثر بتحديد شروط النمط التفسيري.
يذكر غادامر أن "الفهم، أساسا، حدث متأثر بالتاريخ" وبالتالي يرفض قراءات موضوعية محايدة أو خالية من التقييم للنصوص، بدلا من ذلك، فإنه يؤكد على شرح ما كانت عليه الظروف من أجل معنى تذاوتي (بين- ذاتي) أو Verständigung. ويمكن فهم ذلك بتحديد ثلاث سمات للتفسير: التفسير وجودي، والتفسير جدلي، والتفسير نقدي.
فكرة أن التفسير وجودي مستمدة من تأكيد غادامر أن الحقيقة مستقلة إلى حد كبير عن أي طريقة أو منهج وأننا في الواقع كائنات تفسيرية. هنا، يتبنى غادامر تاريخية هايدغر عن وجودنا في العالم بوصفه واجهة هيكل الديزاين Dasein- ويقصد هايدغر بالديزاين الوجود هناك، فالإنسان في رأيه هو الموجود هناك، أي أنه دائما يوجد في موقف، وهو لا يعي نفسه إلا في عالم ومحاط بأوضاع مصطنعه لم تكن من صنعه هو نفسه. يقول:
"لقد قذف بنا في عالم تقولبنا سياقاته وتحد من خيالنا، وبالتالي  من خياراتنا. كينونتنا الخاصة جدا هي عملية تفسير لماضينا، والذي يستهدفنا وعلينا أن نتجاوب معه... القضية هنا ليس بأي طريقة يمكن فهم الكينونة ولكن ما هي الطريقة لأن يكون الفهم كينونة... التفسير هو الأرضية المشتركة للتفاعل بين النص والمفسر، ومن خلاله يؤسس كل منهما كينونته ... المفسر والنص يرتبطان بشكل وثيق بوصفهما مادة الكينونة."
وبعبارة أكثر فجاجة، فإن التفسير ليس شيئا "نفعله "، بل هو شيء "نكُونه، نكون عليه ". ومن ثم فإن التفكير بتفسيرات مختلفة، كما فعل الرومانسيون، يفقدنا هذه النقطة. وعلى عكس البدء من جديد tabula rasa الديكارتي أو المفاهيم الكانطية المتعالية على سبيل المثال، فإن ما يشكل فهم المرء للنص هو أفقه الذي هو "طيف من الرؤية التي تشمل كل ما يمكن أن ينظر إليه من نقطة استشراف خاصة".
ويتعلق هذا بما يدعوه غادامر تاريخ التأثيرthe history of effect. وحيث أن جودنا هو سياقي بطبيعته، فإننا نسقط على المعنى تقاليد العالم الذي "قذفنا " إليه .
وهكذا فان المرء يمتلك "الوعي التاريخي الفعال " من خلال المدة التي قضاها الوعي في هذا الموضع. الفهم بالتالي يتوقف على الوقتية التي يكون فيها "الزمن هو الإمكانية الإنتاجية للعادات والتقاليد الماساعدة على الفهم من خلال إلقاء الضوء على ما هو الحاضر نفسه". الـ ' الحكم(الفهم، او المعنى) الغاداميري "يمكن أن يُحدد ويُشكل من قبل التاريخ الجوهري الفعلي الغارق فيه بالضرورة في وبالتالي فانه يتشكل به".
تشير فكرة أن التفسير جدلي إلى التردد جيئة وذهابا بين آفاق المفسر والنص. المعنى لا يبرز من النص تلقائيا (مثلما تدعي قصدية المؤلف) ولكن يتطلب المشاركة.  يتحدى الجس والمزيد من التغلغل في النص آفاق المفسر نفسه.
في الواقع، فإن "المواجهة مع النص والانفتاح هو الرغبة في فضح، وتحدي ونقد الأفكار المسبقة التي أبرزها النص. ويتحقق هذا الانفتاح جدليا مع الرغبة في الاستماع وأيضا الاعتراف بالخطأ".
وعلاوة على ذلك، فإن "جزء هام من هذا الاختبار يحدث في مواجهة الماضي ومن فهم التقاليد التي جئنا منها. العملية الجدلية مع النص سوف تؤدي في النهاية إلى انصهار(التحام) الآفاق Fusion of Horizons حيث  احكام المفسرين المسبقة، الناجمة عن تاريخهم الفعلي، يتم عرضها وتحديها -كما لو أن النص يحفز التأمل في التاريخ الفعلي للمفسر وقرائن النص. ومن خلال المحادثة، يتم إنجاز توليفة من نوع ما.
التأويل اذا هو عملية حوارية وبدلا من محاولة الكشف عن بعض الغموض الصوفي، أو القصدية النفسية لمؤلف النص، فإن المفسر يتحدى ويستجوب افتراضاته للحصول على القيمة الحقيقة للنص. وبالمثل، فإن المفسر يضع  أحكامه المسبقه في خطر، من خلال فتحها للمساءلة والتحدي من قبل النص ذاته.
يشير كون التفسير نقديا إلى "أن المفسر يستجوب النص، والافتراضات التي قد تكون أُضعفت أو قوضت مع مرور الزمن . وفي المقابل، يوظف المفسر خبرته لإعادة تقييم فهمه السابق ، ولفصل الافتراضات التمكينية التي تنشد الحقيقة عن تلك المعطلة لها. وهكذا فإن معنى النصوص ليس جامدا بل ديناميكيا. يواجه التأويل التحيزات الضمنية للنص ويقابلها بالتحيزات المماثلة للمفسرين السابقين. التأويل الغاداميري ، بالتالي، قادر على توفير تناول أسلم لما يسمى "الخروج عن السلف المؤسس".
قبل غادامر، سعى التأويل (في محاولة لمحاكاة العلوم الطبيعية) لتحديد حقيقة (صدق) النصوص بالإشارة إلى المعنى الذي كان هو نفسه في كل الأماكن وفي كل الأزمنة. ولكن غادامر يؤكد أن وجود موضعة situatedness ضرورية تحدد الفهم والهوية تبعا للخصوصية الاجتماعية والثقافية والتاريخية والجغرافية، تعني، ليس فقط أن مثل هذا المعنى المتسامي أبعد ما يكون ، ولكنه لم يسأل السؤال الصحيح ـــ ما هي شروط (ظروف) التفسير؟ تفاوتت فائدة تأولية غادامر بين العلماء. اعترض البعض على فكرة أنه جعل الفهم التأويلي مثاليا، آخرون كانوا أكثر تحفظا. وفي حين رأت مجموعة أنه قدم سردية صادقة لتناول النصوص تتجنب القيود المفروضة من نظريات أخرى، اقترح البعض أن علينا فك مزيد من مغاليق نظريته للحصول على احتمالات أكبر.

ولكن الأهم من ذلك، هو أن عدم الاعتراف بقذفنا الأولى Thrownness في هذا العالم حيث شكلت تقاليدنا فهمنا ("وعينا التاريخي الفعلي")، يعني ظهور ما أشار إليه غادامر ؛ تعصب التفكير، في عصر التنوير، للتعصب.

تعليقات

المشاركات الشائعة