ما بعد الحداثة: من أوروبا إلى أمريكا.


ما بعد الحداثة: من أوروبا إلى أمريكا.
أماني أبو رحمة

تُدين المدارس الفلسفية الأنجلوامريكية الرائدة في القرن العشرين، الوضعية في توجهها والتي تنضوي تجاوزا تحت مظلة فلسفة التحليل، للفلسفة الألمانية. يقول مايكل دوميت:" مصدر فلسفة التحليل، مبدئيا أو حصريا، هو في اللغة الألمانية".
فلسفة التحليل، مع ذلك، ليست فقط امتدادا لفلسفة هيغل التأملية أو هوسرل الفينومينولوجية (على الرغم من أن بتراند راسل كان هيغيليا، و بعض كانطي في بواكير حياته، وكان جيلبرت رايل فينومينولوجيا على طريقة هوسرل).
تطورت فلسفة التحليل عن الفلسفة الوضعية في القرن التاسع عشر على يد علماء يهتمون بقوة بالفلسفة أو فلاسفة يهتمون بقوة أيضا بالعلوم. أما الإطار الفلسفي الذي يستقون منه فقد كان فلسفة هيوم الإسمية والإمبيرية التجريبية والابستمولوجيا الكانطية.
تقبلت الفلسفة الوضعية كمبادئ فلسفية ثابته التفرعات الثنائية من الحقائق والقيم، والتفرعات التحليلية والتركيبية الهيومية والكانطية، وأيضا كمبدأ أولي، الاستنتاج الكانطي الذي يرى أن سعينا وراء الحقائق الميتافيزيقية عن الكون قد يكون بلا جدوى وبلا معنى، إلا أن العلم يمكنه على الأقل أن يحقق تقدما من خلال ترتيب وشرح تدفق الظواهر.
تلقت الوضعية زخما وتوجها جديدا بفضل الابتكارات في المنطق والرياضات ـ التي طورها رياضيون المان مثل غوتلوب فريجه،وريتشارد ديديكايند، وديفيد هيلبيرت، وجورج كانتور. وبقدر ما كان هؤلاء الرياضيون فلاسفة، بقدر ما وفروا تفسيرات كانطية وأفلاطونية للرياضيات. ظهرت آثار هذا الزخم في العالم الناطق بالإنجليزية في بدايات القرن العشرين، عندما، قبيل الحرب العالمية الأولى، قدم بتراند راسل التطورات الألمانية للعالم الناطق بالانجليزية في كتابة (أصول الرياضيات). كانت اشتغالات راسل بالمنطق وفلسفة المنطق أحد أهم التيارات التي غذت نشوء المدرسة الوضعية المنطقية.
هناك من يدعي أنه حتى أصول الوضعية المنطقية المانية ثقافيا، نشأت وترعرت في اللقاءات المنظمة لدائرة فينا التي بدأت بعد الحرب، وكان روادها فلاسفة علماء أو علماء فلاسفة. ثم تطورت الوضعية المنطقية إلى قوة فلسفية ووصلت الى الناطقين بالانجليزية عن طريق الفريد آير في كتابه ( اللغة، الحقيقة، والمنطق، 1936).
 وفي حين أنها بدأت بدافع رفع مكانة العقل والمنطق والعلم، إلا أن التطور الداخلي للوضعية والتحليل انتهى بتفريغ هذا الولاء للعقل والمنطق والعلم من محتواه وانهياره في النهاية.
 تنبأ راسل مطلع القرن العشرين بما سيأتي، بما ينتظر الفلسفة. في الفصل الأخير من كتابه (مشكلات الفلسفة،1912) لخص راسل تاريخ الفلسفة بوصفها حلقات سلسلة من الفشل المتكرر للإجابة على تساؤلاتها. هل يمكن أن نثبت أن هناك عالما خارجيا؟ لا. هل يمكن أن نثبت أن هناك سببا ونتيجة؟ لا. هل يمكن أن نثق بموضوعية تعميماتنا الإستقرائية؟ لا. هل يمكننا أن نجد قاعدة موضوعية للأخلاق؟ لا. استنتج راسل أن الفلسفة لا يمكن أن تجيب على هذه التساؤلات ووصل إلى أن الفلسفة لن تمنح حقيقة أو حكمة من أي نوع. اتفق لودفيغ فتجنشتاين والوضعيون المنطقيون الأوائل مع راسل، بل ودفعوا استنتاجته خطوة أخرى إلى الأمام من خلال توفير تفسير لفشل الفلسفة. لا يمكن للفلسفة أن تُجيب على تساؤلاتها لأن الفلسفة بكل بساطة لا معنى لها. ليست القضية أن الفلسفة تسأل اسئلة، لسوء الحظ، يصعب الإجابة عليها، بل أن اسئلة الفلسفة ليست واضحة، سيئة الصياغة وعليلة. كتب مورتيز شيلينك، مستشرفا اللاواقعية ما بعد الحداثية، عن( لا معنى )الافتراضات حول العالم الخارجي:" هل يوجد العالم الخارجي؟ سؤال غبي ليس واضحا لأن " انكاره أو تأكيده ليس له معنى" وإذا كنا لا نستطيع أن نتحدث بكلام له معنى عن العالم الخارجي، فإن نسبه علة ومعلول للعالم الخارجي هو أيضا بلا معنى ــــ السببية، يقول فتجنشتاين،"خرافة".
 الخطأ الذي ارتكبه الفلاسفة الأوائل هو الاعتقاد بأن للفلسفة موضوعا خاصا بها. يؤكد الوضعيون المناطقة أن ليس للفسفة محتوى مثل الميتافيزيقا والأخلاقيات والثيولوجيا والجماليات. هذه أصلا تحقيقات بلا معنى ولا بد أن تحذف. ولأن الاسئلة الفلسفية التقليدية بلا معنى، لا بد لنا أن نعيد تعيين وظيفة الفلسفة. الفلسفة ليست محتوى بل منهجا. وظيفة الفلسفة هي التحليل، والتوضيح، والشرح. الفلسفة ليست موضوعا، الفلسفة وظيفة أو دورا، ودورها هو أن تكون مساندة تحليلية للعلوم. وهكذا كانت( فلسفة التحليل). الغرض الجديد للفلسفة هو تحليل الأدوات الإدراكية الحسية واللغوية والمنطقية التي يوظفها علماء العلوم. يدرك العلماء حسيا، وينظمون ملاحظاتهم لغويا في مفاهيم وافتراضات ثم يبنون تلك الوحدات اللغوية موظفين المنطق. وظيفة الفلسفة، من ثم، هي اكتشاف ما الإدراك واللغة والمنطق. والسؤال بعد ذلك: ما هي الاستنتاجات التي وصلت اليها فلسفة التحليل في القرن العشرين عن المنطق واللغة والإدراك؟
 لنبدأ بالإدراك الحسي، فمع حلول منتصف القرن العشرين، كانت الفكرة السائدة عن الإدراك الحسي أنه مثقل بالنظرية. اتفق أكبر الأسماء في فلسفة العلوم ــ توماس كوهن، وكارل بوبر، ونوروود هانسون، وبول فييرآبند ــ وعلى الرغم من التباينات في مفهومهم لفلسفة التحليل، على أن نظرياتنا تُملي علينا ما نراه.
وبمصطلحات كانط، فإن حدسنا الإدراكي لا يتطابق مع الأشياء/الموضوعات، بل إن حدسنا يتطابق مع ما تزودنا به ملكاتنا المعرفية من نفسها.
هذا الإستنتاج عن الإدراك الحسي مدمر للعلم. فإذا كانت ادراكتنا مثقلة بالنظرية، فهي بالتالي غير محايدة وغير مستقلة، وإذا كانت البنى المفاهيمية هي من يشكل ملاحظاتنا بقدر ما أن ملاحظاتنا تشكل مفاهيمنا، فإننا عالقون داخل نظام ذاتي لا يتيح دربا مباشرا للواقع أو الحقيقة أبدا.
وبالتزامن أيضا، أي في منتصف القرن العشرين تقريبا، كان الإستنتاج حول المفاهيم والافتراضات المنطقية والرياضية أنها تقليدية. اتفق معظم الوضعيين مع هيوم وكانط أن الافتراضات المنطقية والرياضية تحليلية أي قبلية، وضرورية.
يمكننا على سبيل المثال أن نتأكد من صحة العبارة الرياضية دون اللجوء إلى التجربة العملية عن طريق تحليل معاني مفاهيمها، ولكننا على سبيل المثال لن نعرف صحة عبارة مثل (السيارة بيضاء) إلا بالخبرة والتجربةــ لابد أن نحدد الرابط بين المفهومين (سيارة، بيضاء) عمليا، علما بأن العلاقة ستكون عرضية، طارئة أو مؤقتة. هذا التفرع الثنائي الكانطي/الهيومي للإفتراضات التحليلة والتركيبية ولّد مباشرة مشكلات عديدة: الافتراضات الرياضية والمنطقية منفصلة عن واقع الخبرة. والافتراضات عن عالم الخبرة ليس بالضروة أن تكون صحيحة، والافتراضات المنطقية والرياضية، من حيث كونها صحيحة، يجب أن لا تكون من عالم الخبرة والتجربة. الإفتراضات الرياضية والمنطقية، إذا، يقول موريتز شليك " لا تتعامل مع أي حقائق، ولكن مع رموز يمكننا بواسطتها أن نعبر عن الحقائق". وهكذا فهي لا تخبرنا شيئا عن عالم الحقائق التجريبية.
عبر فيتجنشتاين عن الفكرة في (التراكتاتوس) قائلا:" كل افتراضات المنطق تقول لنا الشيء نفسه. وهو لا شيء". المنطق والرياضيات، إذا، في طريقها لأن تصبح ألعابا من المناورات الرمزية.
وبالمثل، فإن هذه الاستنتاجات حول المنطق والرياضيات مدمرة للعلم أيضا. فإذا ما انفصل المنطق والرياضيات عن الواقع فإن قواعد المنطق والرياضيات لن تقول شيئا عن الحقيقة. وسيترتب على ذلك أن المنطق والرياضيات لن تساعد في فصل النزاع بين الإدعاءات المتنافسة عن الحقيقة. افتراضات التحليل" فارغة تماما من المحتوى الفعلي. ولهذا السبب، فلا خبرة أو تجربة يمكن أن يفندها". الإثباتات المنطقية،إذا، عن الموضوعات الحقيقية هي، في الواقع، بلا هدف.
 والعكس صحيح أيضا، إذ لا جدوى من توقع أي دليل واقعي لتضيفه للإستنتاجات أو المقولات الضرورية الكلية.
 يقودنا قبولنا أن الإفتراضات المنطقية والرياضية لا تستند على حقيقة تجريبية وبالتالي لا تخبرنا أي شيء عن الواقع إلى أن نتساءل: من أين جاء المنطق والرياضيات. فإن لم يكن لهما مصدر موضوعي فهما بلا شك ذاتيان.
لدينا هنا خياران ضمن فلسفة التحليل. خيار النيوكانطية الذي يؤكده الأهلانيون nativists ومنظري الإتساق coherence theorist والذي يركز على أن الافتراضات الأساسية للمنطق والرياضيات متأصلة فينا وتنشأ بالضرورة نفسيا بمجرد أن نتعلم الكلام. وتعيب هذه النسخة من الكانطية على الكانطية الأصلية أنها تأمل أن مثل هذه الافتراضات المتأصلة أو الناشئة تعكس او تمثل حقيقة خارجية بأي شكل من الأشكال. ولكن النقاد يتساءلون دائما، في ضوء الادراك الحسي المثقل بالنظرية، كيف يمكن أن نثبت أن مثل هذه العلاقة موجودة؟ ذلك أن أي ثقة بعلاقة بين الواقع والمنطق المتولد ذاتيا لا يمكن أن نتحصل عليها إلا بوثبة ايمانية.
هناك إذا الخيار الثاني. النيوهيومية التي يؤكدها البراغماتيون مثل نيلسون غودمان وارنست ناجل. هنا تصبح الافتراضات الرياضية والمنطقية هي مُعَامل كيف نقرر توظيف الكلمات، وأي تجميع من الكلمات نقرر أن نمنحه الاأضلية. المفاهيم اسمية محضية تستند إلى خيارات انسانية ذاتية عن كيف نتلمس تدفق الخبرات الفينومينية.
والنتيجة المباشرة لهذه الإسمية هي النسبية المفاهيمية : إذ يمكن أن نقرر بشكل مختلف المفاهيم التي سنوظفها، ويمكن لعوالمنا أن تختلف تماما وأن نتلمسها بشكل مختلف، يمكن أن لا نختار أحد الوان الطيف لنطلق عليه الازرق ونطلق على جاره الاخضر، ويمكن أيضا أن نختار منطقة ما بينهما ونطلق عليها أي اسم، لنقل مثلا أزرخ أو أخضق. المسألة، إذا، مسألة اتفاقيات. لا واقع ولا حقيقة.
فاذا كانت كل المفاهيم اسمية بالاتفاق فأول نتيجة لذلك هي أنه لن يكون هناك أي أساس للتمييز بين الإفتراض التحليلي والتركيبي.
تصبح كل الإفتراضات بعدية وطارئة خالصة. والنتيجة الثانية هي النسبية المنطقية. فالمبادئ المنطقية هي بنى مفاهيمية. ما يمكن أن يطلق عليه مبدءا منطقيا لن يكون محكوما بالواقع أو الحقيقة بل يعود لما نرغب نحن به "مبادئ المنطق والرياضيات كلية كونية لأننا ببساطة لم نسمح لها قط ان تكون خلاف ذلك".
 تصبح المبادئ المنطقية قضية ( أي صيغة نريد) أن نقبل بها، مع الأخذ بعين الاعتبار ما اذا كنا سنتحمل مسئولية اي اثار مترتبة على قبولنا هذا المبدأ المنطقي دون سواه أم لا.
كتب رورتي عن نهج ويلارد فان أورمان كواين ," ليست قضية علاقة خاصة بين الأفكار (أو الكلمات) والاشياء، ولكنها قضية محادثة، ممارسة اجتماعية". ولكن ماذا إذا لم يرحب أحدهم بالنتائج المترتبة على اختيار مبدأ منطقي ما؟ ماذا لو تغيرت الممارسات الخطابية أو الإجتماعية؟ اذا كانت قواعد المنطق واللغة اتفاقية، ما الذي سيمنع أحدهم لأي سبب كان، من اختيار اتفاقيات أخرى وتكيفها لصالحه؟ لا شيء أبدا. قواعد المنطق واللغة، إذا، متباينة كغيرها من الإتفاقيات: كالتحية مثلا التي قد تكون بالتلويح أو المصافحة أو العناق أو الإنحناء أوالتقبيل. لا صيغة محددة لها وليست محكومة بالصواب والخطأ كما أن لا صيغة أفضل موضوعيا من غيرها.
وهكذا، بحلول منتصف القرن الماضي، هيمنت هذه الاستنتاجات. اللغة والمنطق تبعا لذلك اتفاقيات، نظم داخلية ــ ليست ادوات وعي موضوعية مستندة إلى حقيقة ولا تشير إلى أي واقع أو حقيقة خارج النظام نفسه.
الخطوة التالية في الطريق إلى ما بعد الحداثة الامريكية كانت من توماس كوهن. في كتابه الذائع الصيت( بنية الثورات العلمية،1962)، لخص كوهن التطورات التي مرت بها فلسفة التحليل على مدى العقود الأربعة السابقة له ووضح النهاية التي وصلت إليها. إذا كانت أدوات العلم هي الإدراك الحسي، والمنطق، واللغة، فإن العلم ليس إلا مؤسسة تتطورإجتماعيا وذاتيا لا يزيد نصيبها من الموضوعية عن أي نظام معرفي أو اعتقادي آخر.
 فكرة أن العلم يقول الحقيقة او يتحدث عن واقع ليست إلا وهما. لا يوجد حقيقة: هناك حقائق. والحقائق تتغير.
وهكذا انهارت الروح الموضوعية والعلمية في التقاليد الأنجلو أمريكية.
كتب ريتشارد رورتي أشهر ما بعد حداثي أمريكي، وجهة نظره في (اللا ــ واقعية أو ضد الواقعية) : "أن تقول أنه يتوجب علينا نبذ فكرة أن الحقيقة هناك تنتظر من يكتشفها ليس هو أن تقول أننا قد اكتشفنا أن لا حقيقة هناك. بل هو أن تقول أن ما يخدم أغراضنا وأهدافنا بصورة أفضل هو أن نكف عن رؤية الحقيقة بوصفها قضية عميقة، أو موضوعا مهما للفلسفة، أو انها ( صحيحة) بوصفها مصطلحا يكافئ التحليل. "طبيعة الحقيقة" موضوع عديم الجدوى، يشبه بذلك "طبيعة الإنسان" أو "طبيعة الله".....".
 بدأت مختلف مدارس التحليل باستنتاج كانط أن لا جواب للأسئلة الميتافيزيقية، هذا عدا عن كونها متناقضة أو بلا معنى، ويجب تنحيتها جانبا. لذلك عمد الفلاسفة من بعده على تناول أو ادراك الفلسفة بوصفها نقدا خالصا أو تحليلا. وكجزء من هذا المشروع، سعى بعض التحليليين الأوائل خلف ملامح بنيوية ضرورية وكونية في النحو والمنطق. ولكن دون قواعد ميتافيزيقية للغة والمنطق تراجع هؤلاء إلى الذاتية وعلم النفس، وحين وصلوا إلى هناك وجدوا أن الذاتي والنفسي اتفاقي أيضا ومتغير، ولذلك وصلوا أيضا إلى قناعة مفادها ليس أن اللغة والمنطق لا علاقة لهما بالحقيقة والواقع بل أنهما أيضا اتفاقيان ومتغيران. بقيت قضية العلم. ركن الفلاسفة التحليليون لسبب او لآخر للعلم، وقرروا أن يحللوا مفاهيمه ومناهجه. ولكنهم، وفي غمرة انشغالهم بتحيل العبارات والمناهج العلمية، تساؤلوا مع بول فييرآبند، ما هي خصوصية العلم ؟ لماذا لا نحلل المفاهيم والأساليب اللاهوتية ؟ أو الشعر مثلا؟ أو السحر؟ وعندما نبذ التحليليون المناقشات حول الحقيقة بوصفها منظور ميتافيزيقي عديم الجدوى، لم يعد بأمكانهم ان يقولوا إن المفاهيم العلمية أصدق وأصح أو إن المناهج العلمية ذات خصوصية لأنها تقربنا من الحقيقة.
وصلنا إلى قضية القيمة. فاذا كانت قاعدة دراسة العلم هي القيمة(القيم) الشخصية، فما منزلة القيمة الشخصية؟ قلنا أنه بحلول منتصف القرن العشرين، التقت الفلسفة القارية مع فلسفة التحليل. وبمباركة الفلسفتين لطلاق الحقيقة من القيمة والجدوى الذي تسبب به هيوم ومن بعده من الهيوميين، خلص أغلب الفلاسفة إلى أن التعبيرات عن القيم ليست موضوعية ولا تخضع للعقل. فالمبادئ الاخلاقية في نهاية المطاف عشوائية. وتكمن عشوائيتها في الفعل المطلق للإرادة، أو في الاتفاقيات الإجتماعية، أو ــ كما يقول الوضعيون الأوائل ـــ في التعبيرات العاطفية الذاتية. وبوصولهم إلى هذه الاستنتاجات، عن المعرفة والعلم والقيم، كان المفكرون الأمريكيون على أتم الاستعداد لاستقبال فلسفة هايدغر ونيتشه.
وضع مفكرو النصف الأول من القرن العشرين أُسس ما بعد الحداثة. وفرت التطورات في الفلسفة القارية حتى هايدغر منحى ايجابيا لما بعد الحداثة. وتركت التطورات السلبية في الفلسفة الأنجلوأمريكية حتى انهيار الوضعية المنطقية المنافحين عن العقل والعلم وحدهم يائسيين ومحبطين : لا عقل ولا علم ولا لغة ولا منطق ولا قيمة يقود إلى الحقيقة التي لا نعرف إن كانت هناك أصلا أم لم تكن. إذ من يستطيع مناقشة النسبية والتشكيكية التي يوظفها ما بعد الحداثيين؟
ومع ذلك فإن معظم فلاسفة القرن العشرين كانوا متدرجين ومرحلين وغير منهجيين، خصوصا في التقاليد الأنجلو أمريكية. ما بعد الحداثة هي أول توفيق بين تبعات ونتائج التوجهيين الرئيسيين في الفلسفة.
نجد في ما بعد الحداثة، اللاواقعية الميتافيزيقية، والذاتية الابستمولوجية، ووضع المشاعر والعواطف في قلب القيم، ونسبية المعرفة والقيم، ونزع القيمة عن المشروع العلمي برمته.
تقع الميتافيزيقا والابستمولوجيا في بؤرة الطرح ما بعد الحداثي، دع جانبا أن معظم ما بعد الحداثيين يعتبرون أنفسهم ضد الميتافيزيقا وضد الابستمولوجيا، فكتاباتهم لا تركز إلا على هذه الثيمات وبصورة حصرية تقريبا.
هاجم هايدغر المنطق والعقل ليفسح مكانا للعواطف، واختزل فوكو المعرفة إلى تعبيرات عن السلطة المجتمعية، وفكك دريدا اللغة وحولها الى مسرح للعب الجمالي، ورصد رورتي خسارات التقاليد الموضوعية والعقلانية بمصطلحات ميتافيزيقية وابستمولوجية خالصة.
وانطلاقا من هذه الميتافيزيقا اللاواقعية والابستمولوجيا اللاعقلانية ظهرت الآثار والعواقب الاجتماعية تباعا وبصورة مباشرة. فإذا ما وضعنا العقل والحقيقة جانبا، فما الذي سيتبقى لنا لنستمر؟
يمكننا كما فعل المحافظون أن نعود الى تقاليد الجماعة ونتبعها، أو أن نفعل مثل ما بعد الحداثيين ؛ نركن إلى المشاعر ونسير خلفها. وإذا سألنا ماهي كتلة المشاعر التي ستسعفنا في طريق الحياة الشاق والطويل؟ عندها لن تخذلنا نظريات (الطبيعة الانسانية) من القرنين التاسع عشر والعشرين ؛ من هايدغر وكيركيغارد سنأخذ الفزع والشعور بالذنب، ومن ماركس سنستلف مشاعر الاغتراب الدائم والمظلومية العميقة والغضب العارم، ومن نيتشه سنستشعر احتياجنا العميق للقوة، أما فرويد فسيكشف لنا عن الجنسانية السوداء العنيفة في دواخلنا. الغضب والقوة والشعور بالذنب والشهوة والفزع كلها تشكل معا مخزون عالم ما بعد الحداثة العاطفي، فلا عقل ولا حقيقة ولا معرفة موضوعية ولا منطق ولا رياضيات ولا ما يحزنون.
انقسم ما بعد الحداثيين حول ما إذا كانت العواطف والأحاسيس محددة بيولوجيا أو اجتماعيا، مع ترجيح مميز للنسخة الإجتماعية من الخيارين. في كلتا الحالتين، فالمشترك هو أن الأفراد لا يسيطرون البته على مشاعرهم : هوياتهم ليست إلا نتاج عضويتهم في مجموعة ما: سياسية أو اقتصادية أو عرقية أو حتى جنسية. ولأن شكل وتكوين الخبرات الاقتصادية والجنسية والعرقية أو تطورها يختلف من مجموعة إلى مجموعة، فإن المجموعات المختلفة لن تمتلك اطارا تجريبيا مشتركا. وبدون معيار موضوعي يمكن من خلاله الوصول إلى عامل مشترك بين المنظورات والمشاعر المختلفة، وبدون الاحتكام إلى العقل، فإن النتيجة هي الصراعات والانشقاقات وتعدد الخلافات إلى ما لا نهاية.
الكياسة السياسية أو الإجتماعية المقرفة والمنافقة ستحل محل التعبير عن المشاعر الحقيقية. ولأننا قد نبذنا العقل فلن نتوقع من أنفسنا أو من الآخرين أن يتصرفوا بعقلانية، ولأننا وضعنا شغفنا ومشاعرنا في الواجهة فإننا سنتصرف وسنتجاوب مع تصرفات الاخرين بفظاظة ولن نعبأ إلا بلذة اللحظة، هنا والآن. ولأننا فقدنا احساسنا بأنفسنا كأفراد فاعلين فسنسعى خلف الجماعة لتحقيق هوايتنا، ولأن جماعتنا لا تشترك بالكثير مع الجماعات الأخرى فسننظر إلى تلك الجماعات بوصفهم اعداء.
ولأننا تخلينا عن مساقات المعايير العقلانية والمحايدة، فإن المنافسة العنيفة ستكون بلا شك ممارسة مقبولة، ولأن حل النزاعات سلميا لم يعد موضع احتفاء أو دليل على رجاحة العقل مثلا، فالتعقل لن يعني سوى أن الأقسى والأفظع هو من يستحق الحياة.
يمكن تحديد تجاوب ما بعد الحداثين مع الوحشية الكامنة في قلب المجتمع ما بعد الحداثي في ثلاث توجهات عريضة استنادا الى ما إذا كنا سنمنح الأولية لفكر فوكو أو دريدا أو رورتي.
ففوكو الذي يعود إلى نيتشه يقترب من اختزال المعرفة إلى تعبيرات عن السلطة المجتمعية، ويحثنا بالتالي على أن نلعب لعبة سياسات السلطة المتوحشة ـ على الرغم من أنه يخالف نيتشه حين يشجعنا على لعبها لصالح اولئك المهمشين تقليديا.
دريدا الذي يعود إلى هايدغر مقتبسا ومنقحا، يفكك اللغة ويتكئ عليها بوصفها مسرحا للعب الجمالي وبذلك فقد عزل نفسا من التورط في الاشتباكات والمشاجرات الاجتماعية والسياسية (تحول عن ذلك قليلا في سنواته الأخيرة وحاول أن يطوع تنظيراته للممارسة السياسية والاجتماعية).
أما رورتي فيأمل، بعد ان أنكر الموضوعية، أننا قد نتمكن من الوصول الى اتفاق (ذاتوي بيني) بين اعضاء (قبيلتنا) أي المجموعة التي اخترنا الانضمام لها. ولأنه يشعر بالولاء لجذورة الليبرالية اليسارية الأمريكية، فإنه يتوقع منا أن نتلطف ونحن نفعل ذلك.
الخيارات ما بعد الحداثية، باختصار، هي إما أن ننهمك في المشاجرات، أو أن ننسحب ونعزل أنفسنا عنها، أو أن نحاول تحسين فوائضها.
ما بعد الحداثة على هذه الصورة هي تتويج التيارات التي أصابت التنوير في مقتل والتي دشنتها الابستمولوجيا الكانطية وانتهت إلى صورة ما بعد الحداثة.
ادعت ما بعد الحداثة أنها حافظت على مساحة للاختلاف، للآخر. ولكن، في الواقع، كما يدعي نقادها، ليس دون أيديولوجية مهيمنة، أو نوع من الإكراه الخفي، على الرغم من موقفها التقي الورع تجاه المهمشين والمستبعدين وانحيازها لمصالحهم. فالتأكيد على سيادة الطارئ على الضروري، والمحسوس على المجرد، والخاص على العام، والتخلي عن المزاعم الشمولية للنظرية، ليس موقفا أيديولوجية بريئا : ذلك أنه يجر وراءه حملا ثقيلا وغير أخلاقي في مسارب ودروب تاريخ التجربة الغربية، تاريخ يكاد لا يضمن موقفا واحدا مستثنى من علاقات الهيمنة السلطوية يؤيد هذا الادعاء. فالبراغماتية صعبة المراس ظاهريا التي تؤكد أن المادي المحسوس فقط هو الحقيقي، تقيد نفسها أيضا بواقع هنا والآن: شجاعة أن تغمر نفسك في حالة طارئية وعشوائية التاريخ دون قوانين تنزلق بسهولة إلى قبول – بسخرية أحيانا، أو بالرضا أحيانا أخرى ــ التاريخ الذي يقرره لك او يفرضه عليك الآخرون. وإذا كانت المعارضة للهيمنة تقتصر على جيوب المقاومة كما قد يُفهم من تنظيرات فوكو عن السلطة (مقابل فكرة المقاومة الشاملة ضد الهيمنة الشمولية)، فمن السهل محاصرة تلك الجيوب. وفي حين أن رفض السيطرة يبدو وكأنه لفتة نبيلة بما فيه الكفاية، فإنه يصطدم بإلزام معين غير نبيل، إن لم يكن انتهازية سياسية. إذ قد يرغب المنظرون الأكاديميون الذين يشغلون مناصب آمنة ونخبوية نسبيا في أن ينفصلوا عن الكليات أو الشموليات الزائفة وهي المهمة التي يجب على الأكاديمية بشكل عام القيام بها. ولكن المشكوك فيه هو ما إذا كانت أي مجموعة اجتماعية تكافح من أجل التحرر من التبعية أو الاستغلال، ستتمكن من التمييز بسهولة بين "الخطاب السائد " الذي يعقلن الظلم ويبرره وذلك الذي يمكن من التحرر.


تعليقات

المشاركات الشائعة