الأدائية أو نهاية ما بعد الحداثة

مقدمة كتابي (الأدائية أو نهاية ما بعد الحداثة: تطبيقات في السرد والسينما والفن) الصادر عن أروقة 2012
__________________________________________________________
يجب أن أعترف أولا أنها كانت مفاجأة سارة و تكريما عظيما لي, عندما اتصلت بي السيدة / أماني أبو رحمة وأخبرتني أنها قد قامت بترجمة هذه المادة إلى العربية, وأنها ترغب في نشرها في كتاب. ولأن تركيزي ـ بوصفي دارسا في الأدب المقارن ـ منصب بشكل كامل تقريبا على الثقافة الأنجلو أوروبية، وأشعر بصعوبة بالغة في الكتابة عن أي شيء خارج هذا المجال، فإنني أشعر بكثير من الفخر أن أكتشف أن نظريتي العامة الموسومة بـ (الأدائية) قد وجدت اهتماما في ذلك الجزء الناطق بالعربية من العالم.وآمل ـ بالرغم من ضيق قاعدتها الثقافية، أن تكون مصدر إلهام للقراء.
ولأن الأدائية مصطلح جديد، أود أن أتحدث قليلا عن كيف تبلور هذا التعبير وما هي مقاصدي عندما فكرت بالمفردة؟
          تعود القصة إلى منتصف التسعينيات. عندها كنت سلافيا مهتما بقضايا التحقيب في الأدب الروسي والتشيكي , وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بالحداثية وما بعد الحداثية. وفي عام 1996, وضعت كتابا يحاول شرح كيف بدأت ما بعد الحداثة في الاتحاد السوفيتي. وكنت أعلم أنه إذا ما بدأت الحقب فإنها ستنتهي لا محالة, ومن هنا بدأت أبحث عن علامات النهايات في الأدب الروسي.
لاحظت على الفور أن أعمال الكاتب الروسي المعاصر الشهير, فيكتور بيلفين, تحيد عن قواعد ما بعد الحداثة غير المكتوبة. وبيلفين الذي يمكننا أن نقول عنه إنه روسي بوذي , يقوم بأمرين : الأول , هو أنه يكتب قصصا يصل فيها الأبطال إلى مرحلة التجاوز والتعالي على العالم المادي. وثانيًا وربما الأهم أنه يكتب قصصا تخدع القارئ بجعله يتخذ مواقف بوذية نحو العالم سواء أراد ذلك أم لم يرد. وبسبب هذه الحيل فإن القارئ يعتقد أن بيلفين يسخر منه على غرار التهكم الساخر أو المفارقة ما بعد الحداثية. تبدو أعمال بيلفين غريبة وغير مكررة ولهذا فقد تبادر إلى ذهني أن هذا النوع من الكتابة مقتصر على ظروف خاصة في روسيا، ولكن هذا الافتراض تغير جذريا عندما شاهدت فيلم (الجمال الأمريكي), الذي عرض عام 1999، هنا وجدت الحيلة ذاتها ولكن هذه المرة في أمريكا. لقد مات البطل وتجاوز العالم الذي أصبح يعتبره جميلًا؛ وفي النهاية, وبعد وفاته, قال لنا إننا أيضا سنراه جميلا عندما نموت. فالاستراتيجية السردية هي حيلة أو مصيدة تقترح أننا لا يمكن أن نصل إلى المعرفة أو الحقيقة إلا من خلال التعالي، عكس الطريقة النقدية الموظفة في ما بعد الحداثة. وهكذا فقد أصبح لدي دليل على أنني أتعامل مع ظاهرة عبرت الحدود الوطنية، وسرعان ما وجدت المزيد من الأمثلة في اشتغالات سردية أخرى وبلغات أوروبية مختلفة.
وقد لاحظت أيضا شيئا آخر، وهو أن كثيرا من الأفلام والروايات قد بدأت بعرض شخصيات بسيطة أو لنقل غبية. وأفضل مثال على ذلك فيلم فورست جامب (Forrest Gump)، ولكنني وجدت أمثلة أخرى في الرواية والسينما الأوروبية. في هذه الأعمال، كانت الشخصيات الساذجة أو الغبية غير قادرة على الانخراط في سخرية ما بعد الحداثة بل وربما أنها لم تكن في أوضاع مفارقة أصلا وهذا هو الأهم. وبعبارة أخرى، لقد بدأ الكتاب بالتعامل جديا مع البطل الـ "غبي"، وأجبروا قراءهم على التماهي مع هؤلاء الأبطال على حساب تلك الشخصيات الذكية والساخرة. وأخيرا، كانت هناك مشكلة فنية لا بد من حلها قبل أن أتمكن من صياغة نظرية عامة.
ترتبط ما بعد الحداثة بشكل وثيق جدا مع ما بعد البنيوية، وهذا يعني ارتباطها بكتابات المفكرين الفرنسيين اللامعين : لاكان، ودريدا، وفوكو، ودولوز، وليوتارد وأتباعهم الكثر. وتعد نظريات ما بعد البنيوية معقدة للغاية في واقع الأمر، بل إنها تتناقض مع بعضها البعض في الحجج الفردية في كثير من الأحيان، ولكنها جميعا تشترك في الافتراض نفسه عن الإشارات والأشياء. وللتبسيط، فإن هذا الافتراض هو أنه لا توجد علاقة طبيعية موحدة بين الأشياء والعلامات، تعين العلامات للأشياء بطريقة مصطنعة وبعد وقوعها في الخطاب، أي في اللغة الموظفة في الحالات الاجتماعية المحددة لتحقيق أهداف معينة. وهكذا فإن العلاقة بين العلامة والشيء في التوظيف اللغوي تعبير غير مباشر عن العلاقات السلطوية داخل المجتمع. يرى ما بعد الحداثيين وما بعد البنيويين أن مهمتهم الأساسية هي توضيح تلك العلاقات السلطوية , والتي تظهر للقراء غير الممحصين بوصفها أمرا بديهيًا طبيعيًا. وعلى عكس الفنانين والمثقفين الحداثيين، الذين أصروا على أهداف طوباوية أوصلتهم إلى كوارث شمولية، انحاز ما بعد الحداثيين إلى السخرية بوصفها أداتهم الجدلية الرئيسية. وكانت استراتيجيتهم هي انتقاد وتقويض علاقات السلطة القائمة دون أخذ مواقف أيديولوجية واضحة تعارض تلك العلاقات.
بدأت المواقف التهكمية في الستينيات، وبحلول التسعينيات اعتمدت تلك المواقف بطريقة أو بأخرى وعلى نطاق واسع من قبل الأكاديميين والكتاب وصناع السينما والفنانين. ولكن مع نهاية التسعينيات أصبحت تلك المواقف مبتذلة ومتوقعة. وتزايد الاعتقاد بأن ما بعد الحداثة في طريقها نحو الأفول وكان السؤال المطروح بقوة هو: ما الذي يمكن أن يحل محلها؟ كان واضحا بالنسبة لي أنه إذا ما كانت هناك ردة فعل تاريخية على ما بعد الحداثة، فلا بد أن تكون ضد التهكم أولا، وثانيا أن توظف نوعا من العلامة بحيث يتحقق نوعٌ من الوحدة بين العلامات والأشياء.
ولكن كيف يمكن وصف هذه الوحدة؟
أظهرت نظرية ما بعد البنيوية أن جميع المفاهيم التقليدية عن العلامة الموحدة هي محض أوهام تعتمد في نهاية المطاف على علاقات القوة المدرجة في اللغة. وكنت بحاجة إلى نظرية موحدة (أو واحدية) عن العلامة بطريقة ما، والتي من شأنها أن تعكس الاتجاهات الثقافية نحو الوحدة وضد السخرية وتراوغ على نحو ما نقد ما بعد البنيوية للعلامة.
لذلك فكرت في أن أضع تلك النظرية بنفسي ولكن ذلك لم يتحقق , بل إن الحقيقة هي أن كل محاولاتي لابتكار نظرية واحدية لم تحقق الكثير. وبدأت أبحث عن بدائل في أعمال نقاد آخرين ولكنني كنت سييء الحظ حتى عام 1998، عندما دعيت لمؤتمر عن المفارقة في الأدب الروسي. وفي قائمة المؤتمر كان هناك كتاب بعنوان علامات المفارقة Signs of Paradox لكاتب لم أسمع به من قبل، اسمه إيريك غانس، والذي غير مجرى حياتي المهنية الأكاديمية. واكتشفت بسرعة، أن غانس قد طور مفهوما واحديا عن العلامة منذ ما يقرب من عشرين عاما، وأن هذا المفهوم يعارض ما بعد البنيوية بصورة جذرية.
يفترض غانس أن السلوك الإنساني قبيل اللغة يستند إلى التقليد والمحاكاة، فاللغة، مع ذلك، هي التي تفصل الإنسان عن الحيوان. وبمعنى آخر، فإن توظيف اللغة هو ما يسمح لنا بتجاوز الحالة الحيوانية وأن نصبح بشرا على وجه التحديد. وإذا كان ذلك صحيحا، فإن اختراع اللغة، أو العلامة الأولى, يجب أن يكون حدثا متعاليا متجاوزا أو دينيا بالنسبة لأولئك الذين خبروه. ومن الواضح أنه لا توجد وسيلة لإعادة بناء هذا المشهد البدئي (إذ لا يوجد من يتذكره). ولذلك وضع غانس مشهدا افتراضيا، يفترض فيه وجود إنسانين بدئيين غير قادرين على الكلام، ويرنو كلاهما إلى شيء مرغوب (عظمة، وقطعة من طعام وما إلى ذلك). وعادة، إذا كان أحد هذين الإنسانين يمتلك شيئا وكان الآخر يريد أن يحاكي فعل الامتلاك هذا، فإن النتيجة هي صراع عنيف. ولكن، وكما يفترض غانس، إذا ما بعث أحدهما إشارة من نوع ما ترمز إلى الكائن المطلوب وتقترح أنهما ليسا بحاجة للاقتتال من أجله، وإذا ما تقبل الطرف الآخر العلامة، فإنه سيتم تأجيل الصراع في الوقت الحالي. والنتيجة هي وحدة مؤقتة بين العلامة والشيء والشخصين البدئيين.
حققت العلامة البدئيةsign originary أو العلامة الأولى والتي أطلق عليها غانس "الإشارية " ثلاثة أشياء دفعة واحدة : فقد هدأت -وإن مؤقتا- وضعا خطيرا، و أسست لغة , و أسست دينا, لأن هذه العلامة قادمة من مصدر متعالٍ ومتجاوز خارج نطاق الخبرة الإنسانية. وهكذا فإن المشهد البدئي يحمل في طياته بعدا سياسيا ولغويا والأهم بعدا مقدسا تفتقر إليه ما بعد الحداثة. وبذلك فإن أصل اللغة لم يحدد بصراع سلطوي نقي، وإنما من خلال إبراز متبادل للإيمان بين البشر.

وأدركت بسرعة أن النظرية لن تكون مفيدة بالنسبة لي بالمعنى الحرفي ـ فلن يكتب أحد قصصا عن صراع إنسان الكهف على عظمة أو عن العلامة الإشارية التي نادرا ما تحدث في اللغة اليومية. ولكن وبمعنى أكثر عمومية، أدركت أن المشهد البدئي لغانس عكس ما الذي يحدث في الثقافة المعاصرة بطريقة تخطيطية. ومن هنا بدأت في جمع ملاحظاتي المبدئية عن ثيمة التجاوز، وعن الحمقى والبسطاء، والحيل والشرك السردي مع أفكار غانس. وفجأة , أصبح لدي القدرة على شرح أشياء لم يكن باستطاعتي توضيحها من قبل. فأولا , وجدت توازيا بين الطريقة التي تركب بها سرديات أعمال فنية معاصرة معينة وبين مشهد غانس البدئي وعلامته الإشارية. تتمركز تلك السرديات أحيانا حول مشهد بعلامات إشارية بسيطة تمارس فيها الشخصيات وحدة من نوع ما. وغالبا ما تظهر الشخصيات بسيطة أو غبية بسبب تأثرها أو خضوعها لذلك المشهد على وجه التحديد أو، بدلا من ذلك، قد تكون هي سبب المشهد (ذلك أنها تشكل وحدة معه بطريقة أو بأخرى). ويتضح فيما بعد أن هذه الوحدة متناقضة: إنها تمنح الشخصيات مشهدا بسيطا من الكمال, ولكنها تقيدهم وتضيق عليهم بطرق معينة. وتبعا لذلك فإن هدف هذه السرديات هو تجاوز تلك التقيدات للسمو بالشخصية إلى مستوى أعلى. وأخيرا وربما الأهم هو أن تلك المشاهد تظهر من قبل العمل بوصفها كلا متكاملا في مستوى السرد الأعلى. وتوصلت إلى أن أطلق على النتيجة الإطار المزدوج. ويتألف هذا الإطار المزدوج من إطار داخلي مشهد بسيط موحد أو علامة ضمن القصة) وإطار خارجي (تركيب سردي يؤكد الإطار الداخلي). والإطار الداخلي مغلق ودائري أما الإطار الخارجي فإنه يؤكد منطق الإطار الداخلي الذي يؤكد بدوره منطق الإطار الخارجي. والنتيجة هي شرك أو مصيدة لا يمكن للقارئ أو المشاهد أن يهرب منها بل إنه يجبر على قبولها والإيمان بها شاء أم أبى.
وقد وجدت في ذلك جزءا حاسما من التطور الثقافي الجديد، فقد أصبح الإيمان واليقين المختبر في العمل الفني، وليس التهكم النقدي هو السمة المهيمنة على الفن السردي، وتظهر الأعمال الفنية للقراء بوصفها وحدة مغلقة مضطرون لقبولها شكليًا.
وبعد أن وضعت مفهوم الإطار المزدوج، شعرت الآن أنني أمتلك نظرية عملية، ولكن دون اسم محدد. وهنا كان أمامي خياران. كان بإمكاني أن أختار من بين كلمات جديدة مثل “ostensivism,” “closurism,” or “scenism”، وذلك من أجل ربط نظريتي بأعمال غانس التي أدين لها بالكثير. ولكنني شعرت أن تلك المصطلحات قد تبدو غريبة وليس لها حظوظ في البروز والانتشار. وكان خياري الآخر هو أن أعثر على مصطلح شائع بالفعل ومن ثم تكيفه لأغراض نظريتي. وهذا المصطلح الذي سيخمنه القارئ حتما هو الأدائية performatism، فالأداء “performance” موظف في نظريات عديدة أشهرها في اللغة، والنقد النسوي، ودراسات المسرح. وعلى الرغم من أن الأداء متضمن في الأدائية، بمعنى أنه ما زال هناك خلط في التوظيفات، إلا أن المصطلح يحمل خصائصه المميزة.
يشير الأداء كما أفهمه إلى فعل التجاوز الذي هو في لب جميع التراكيب السردية بعد ما بعد الحداثية، وفعل التجاوز هذا يأخذ بالضرورة شكل الحدث أو الواقعة المدهشة، كما أنه يؤكد أيضا حقيقة أن هذه الأفعال التجاوزية تتجلى لنا من خلال أداء)باللاتينية (performance, وهذا الجانب الأدائي هو الذي نتذكره ونقلده لاحقًا.
هذه قصة ظهور مصطلح الأدائية بكل بساطة. والآن أستطيع أن أدعي بكل فخر أن الأدائية قد حققت انتصارا في اقتحام الدراسات الأدبية والثقافية منذ أن قدمتها لأول مرة عام 2000 (سيجد القارئ أول مقال لي عن الأدائية في هذا الكتاب)، ومنذ ذلك الحين أصبحت مصطلحا مقبولا على وجه العموم، ولكن للأسف، ليس كما يجب. وأسباب ذلك لا علاقة لها بنقاط القوة والضعف في الأدائية ذاتها، إذ إن المشكلة الرئيسية هي استمرار هيمنة نظرية ما بعد البنيوية على الدراسات الأدبية والثقافية. فمعظم العلماء المختصين هم في الأربعينيات من العمر أو أكبر من ذلك, لقد أفنوا سنوات من عمرهم، إن لم يكن عقودا، وهم يحاولون استيعاب نظرية ما بعد البنيوية وليس من المتوقع أن يتنازلوا عنها بسهولة، هذا إن فعلوا أصلا.
وبالرغم من وجود وعي عام أن الأمور تتغير في الثقافة، وأن تقانات ما بعد الحداثة أصبحت مستنفدة ومرهقة ومتوقعة، إلا أن الاهتمام الرسمي بمعالجة مواضيع الحقبة الجديدة التي ستحل محل ما بعد الحداثة، أو تحديد نظرية جديدة تحل محل ما بعد البنيوية كان ضئيلا للغاية. وهكذا وحتى كتابة هذه السطور عام 2012، نجد بالإضافة إلى الأدائية جملة من المقترحات تحاول توصيف المرحلة الجديدة من قبيل (الحداثة الرقمية)، و (الحداثة المتذبذبة) و (الحداثة المغايرة) و (عصر ما بعد الألفية). ومن المؤسف أيضا أن أيا من هذه المصطلحات لم يحقق توظيفا شائعا أو حتى مناقشة جادة في الدوائر الأكاديمية، ولكني واثق تماما أن هذه المناقشة ستحدث. ولكن من المرجح أن يحدث ذلك على أيدي الشباب الذين لم يخضعوا لتأثير ما بعد البنيوية، والمنفتحين على تقبل الآراء والأفكار الجديدة. وأملي أن تساهم هذه المقالات في تعزيز تلك المناقشات الموعودة.
  راؤول إيشلمان
  واسربيرغ /ألمانيا
  أيلول 2012

تعليقات

المشاركات الشائعة