اتجاهات علم النفس في ما بعد الحداثة


اتجاهات علم النفس في ما بعد الحداثة
                                                                          أماني أبو رحمة
لكل إنسان مجموعته الخاصة من الافتراضات عن الحياة, والأخلاق، والعلاقات التي يدعمها سياق ثقافي معين. هذه الافتراضات قد لا تتوافق جملة أو تفصيلا مع افتراضات وقناعات الآخرين.
ولكن هؤلاء الناس المختلفين يترددون إذا ما أثقلتهم التناقضات، وآلمتهم النسبيات على أخصائي أو معالج نفسي واحد. وفي الوعي المعاصر المختلف لم يعد بمقدورنا التوفيق بين المتناقضات مثل الإيمان الديني العميقوالإلحاد أو العلمانية على سبيل المثال. ذلك أن كلا منهما قد يكون حقيقة منفصلة. وعليه فقد أصبحت مكاتب المحللين النفسين أشبه ببوتقات تجول فيها الحقائق المتعددة. وفي محاولة منه أن يكون فاعلا ومفيدا، يسعى المعالج النفسي جاهدا أن يدخل إلى ـ أو أن يعمل من خلال ـ افتراضات كل حقيقة.
أصبحت قدرة المعالج النفسي على كسب عيشه مرتبطة بقدرته على "تحويل قنوات عقله " من مريض إلى آخر. وأصبح عمله اليومي هو الاشتغال ضمن الحقائق المتنوعة ـ أو المتناقضة ـ واعتبار كل منها صحيحة وصالحة في إطار مرجعياتها الخاصة. وتبعا لذلك فإن عليه أن يتقن فن تعليق قناعاته الخاصة أو نظرته الشخصية وأن يصبح " متعدد العقول"، إن جاز التعبير.
أن تكون ذي "عقول كثيرة " يعني أن تشيد في داخلك غرفة للأساليب المتعددة في التفكير في محاولة لفهم كل طريقة. وذلك يعني أن تنظر إلى الحقيقة بوصفها جمعية ونسبية بدلا من كونها فردية ومطلقة ؛فيعمل المعالج النفسي المعاصر من منطلق أن الحقيقة الخاصة بكل فرد صالحة في إطار سياقاته الخاصة، وأنها تقف على قدم المساواة مع الحقائق الأخرى ضمن سياقاتها الخاصة أيضا.
لقد أصبح الثمن الذي ندفعه مقابل مثل هذه النظرة إلى الحقيقة لا يطاق. وفي نهاية المطاف خلقت ما بعد الحداثة نظرة عالمية لا يمكن الدفاع عنها أو التعايش معها. من وجهة النظر النفسية، فإن استمرار الحياة على طريقة ما بعد الحداثة وأفكارها يشظي الإحساس الفردي بالهوية الشخصية ويعزز الشعور بالعزلة والاغتراب.
وبسبب ذلك كله, بات المعالج اليوم مقتنعا بأن المساعدة الفاعلة مقيدة بالثقافة. وأن الاستراتيجية التي تعمل ضمن سياق ثقافي محدد قد تكون بلا معنى في سياق آخر.
يرى البروفسور جيمس فيديليبوس Jim Fidelibus : أن المعالجين النفسيين المعاصرين باتوا على قناعة بأن:
  التواصل وأنماط اللغة مرتبطان بهيكلية السلطة داخل النظام الأسري
  وأن سبب المرض لا يكون في داخل (الشخص قيد العلاج) بل في الأنماط التفاعلية للأسرة.
  وأن (الشخص قيد العلاج) إنما يحمل أعراض اختلال أنماط التواصل الأسري فحسب.
  وأن الأعراض ليست إلا أشكالا لغوية كالمجاز أو الاستعارة مثلا.
 تشي مركزية اللغة في هذه الافتراضات بتأثير ما بعد الحداثة. الأمر الذي سأتناوله ببعض التفصيل نظرا لمركزيته في أطروحات ما بعد الحداثة، ولتبعاته وآثاره المتعددة على تحديد الهوية الذاتية.
ترى ما بعد الحداثة أن اللغة إحدى أهم العوائق نحو معرفة الحقيقة. فاللغة هي وسط المعرفة. ولكنها تبعا لما بعد الحداثة لا يمكنها أن تعبر عن الحقيقة بكفاية، ذلك لأن هناك شرخــًا كبيرًا بين الكلمات والحقائق التي يفترض أن تعكس فحواها. فالكلمات لن تعرض الحقيقة الموضوعية لأنها ـ أي الكلمات ـ أفكار بمعنى أنها اتفاقيات بشرية. وعليه فإننا لن نتمكن من معرفة الحقيقة الموضوعية إذا ما وظفنا هذه الاتفاقيات البشرية. وكل ما يمكننا أن نحصل عليه هو خلق الحقيقة بوساطة الكلمات. وهذا هو جوهر النظرية البنائية constructivism. وذلك يعني أننا لن نتوصل إلى تقارير كونية عامة عن الإنسان، فضلا عن أننا لن نستطيع ان نحدد ما إذا كان هناك شيئا يمكن أن نطلق عليه الطبيعة البشرية.، يقول ما بعد الحداثيين إنه لا يوجد طبيعة بشرية بحد ذاتها. نحن ما نقوله(نحن) عن أنفسنا.
هناك مشكلة أخرى مع اللغة تتمثل في حساسية ما بعد الحداثيين لما أطلق عليه فريدريك نيتشه: " الرغبة في السيطرة ". يمارس الناس السيطرة والسلطة على الآخرين واللغة وسيلتهم في تحقيق ذلك. فمثلا عندما نحدد أدوار الناس ونتحدث عن الله أو ما يأمرنا به فإننا نحدد توقعات ونصمم حدودا، وبذلك فإننا نتحكم بالبشر عبر اللغة. ونتيجة لهذه النظرة إلى اللغة وقدرتها على السيطرة والتحكم، يميل ما بعد الحداثيين إلى التشكيك بكل " السرديات " ويزعمون أن ما يقوله الناس أو ما يكتبونه ليس سوى أداة لضبط الآخرين والتحكم بهم.
نعود مرة أخرى إلى تبعات هذه النظرة على الإنسان. فإذا ما حاولنا أن نحدد الطبيعة البشرية فإننا تبعا لذلك نحاول أن نفرض سيطرتنا على الآخرين. يقول ما بعد الحداثيين إن جعل الإنسان موضوعا ـ بمعنى مادة للدرس والتحليل ـ معناه أن تُخضع ذلك الإنسان. وبكلمات أخرى أن تضعه داخل بوتقة محددة الجوانب والحدود. والنتيجة أن الطبيعة البشرية لا يمكن ان تُحدد. وتبعا لذلك فإن ما بعد الحداثة لا تعترف بما يسمى بالطبيعة البشرية. بل إنها تذهب أبعد من ذلك حين تنفي وجود الذات الفردية.
ومرة أخرى، أجد من المناسب التفصيل في نظرة ما بعد الحداثة إلى الذات الفردية individual self لأنها حجر الزاوية في علم النفس الما بعد حداثي. حدد والتر اندرسون  أربعة مصطلحات وظفتها ما بعد الحداثة في تناولها لقضية الذات الفردية وموضوعات التغيير وتعدد الهويات وهي :
1- الذات متعددة العقول multiphrenia : وقد وظف المصطلح أول مرة في العام 1991 في كتاب للبروفسور كينيث غيرغن بعنوان(الذات المشبعة: معضلات الهوية في الحياة المعاصرة). ويشير المصطلح إلى أن إنسان ما بعد الحداثة يواجَه بفيض من الأفكار والأدوار والاتصالات وأنماط الحياة، بحيث إن الجوهر التقليدي لهوية ثابتة للأنا يتحلل باطراد إلى "ذات علائقية". يقول غيرغن: " عندما نحدد حقيقة ما عن أنفسنا، تتداعى من دواخلنا أصوات متعددة مشككة وربما ساخرة أيضا". إننا نلعب أدوارا مختلفة بحيث إن مفهوم الذات الأصيلة بسماتها المعروفة بدأ ينسحب من المشهد .
2- الذات المتلونة protean: تمتلك الذات المتلونة القدرة على التغير باستمرار لتتناسب مع الظروف الحالية. وقد يتضمن ذلك تغيير الآراء السياسية والميول الجنسية والأفكار أو طريقة التعبير عنها، وكذلك تغيير أساليب تنظيم الذات. ينظر البعض إلى هذه الخاصية بوصفها عملية البحث عن الذات الحقيقة. إلا أنها بالنسبة لآخرين دليل آخر على فكرة أنه لا توجد ذات حقيقية ثابتة .
3- الذات غير المتمركزة de-centered self: يركز هذا المصطلح على القناعة القائلة بأنه لا توجد ذات على الإطلاق. ذلك أنها تخضع لإعادة التحديد وللتغير باستمرار وتبعا لذلك فلا يوجد ذات خالدة .
4- الذات ضمن علاقة self-in-relation: وضعت فال بلموود هذا المصطلح للإشارة إلى إجراء المداولات الأخلاقية التي تأخذ على محمل الجد العلاقات مع الآخرين دون أن تخسر ـ حسب زعمهاـ الشخصية الفردية في إشكالية الكلانية. لا يسمح هذا النموذج ـ وفقا لبلموود ـ للمصالح الفردية المتميزة بل والمتضاربة ان تتعايش مع بعضها فحسب وإنما ان تتشارك وتتعالق بطريقة غير تعسفية. تأخذ بلموود بعين الاعتبار السياقات الثقافية التي توجد فيها الذات الفردية .
على ضوء هذه المصطلحات يمكننا أن نرسم صورة الإنسان المعاصر الذي عاثت ما بعد الحداثة بنفسه فسادا, وتشظيا، وتشكيكا، وسخرية. فغدا بلا مركز, تتجاذبه اتجاهات عديدة, أنه يتغير باستمرار,ويجري تحديده بناء على معطيات خارجية تتحكم فيها علاقاته بالآخرين. إننا نُشكل بفعل القوى الخارجية وباختصار لقد أضحينا تراكيبًا اجتماعية وحسب.
          تبدو هذه الصورة نقيضا كاملا لصورة الإنسان الحداثي الذي كان هدفه السعي نحو الكمال والعثور على الذات المتكاملة وحبك جميع الخيوط المتناثرة في ذات كلية واحدة ومتماسكة. ولكن ماذا يعني أن تصبح حياتنا مركبة اجتماعيا ؟.
إنها تعني وببساطة أن قيم ولغات وفنون المجتمع وكل ما يحيط بنا هو الذي يحدد من نحن. بمعنى أننا لا نملك ذواتا منفصلة عما يحيط بنا بحيث تبقى ثابتة حتى لو تغيرت ملامح وظروف المجتمع الذي نعيش فيه.
لقد كانت المجتمعات التقليدية تحدد حالة الفرد تبعا للدور المنوط به. وفي المجتمعات الحداثية منح هذا التميز للإنجاز. أما في حقبة ما بعد الحداثة فإن الموضة والأسلوب هي التي تمنح الفرد حالته ووضعيته في المجتمع. فعندما تتغير الموضة لابد أن نتغير معها، وإلا فإن هويتنا ستصبح موضع تساؤل. وتبعا لذلك فإنه لا يوجد سياق خالد لحيواتنا. نحن " متموضعين تاريخيا" حسب انتوني ثيسلتون. بمعنى أنه لا يمكن فهم حيواتنا إلا في سياق اللحظة التاريخية الحالية. كل ما يعنيننا هو الحاضر، فلا تأثير للماضي, أما المستقبل فهو مفتوح على كل الاحتمالات.
والنتيجة هي حياة مشوشة, غير مستقرة. نقتبس من ثيسلتون مرة أخرى قوله: " ولّد افتقاد الاستقرار والهوية والثقة الشكوك العميقة وانعدام الأمن والقلق. . . ". تعيش الذات في ما بعد الحداثة " التجزؤ، وعدم التحديد، وانعدام الثقة الشديد بجميع المطالبات بالحقيقة المطلقة أو المعايير الأخلاقية الكونية. الأمر الذي أدى إلى تبني المواقف الدفاعية و"الانشغال المتزايد بالحماية الذاتية،والمصلحة الذاتية، والرغبة في السلطة واستعادة السيطرة" .
إن فقدان الهوية الذاتية ليس مرعبا فحسب، بل قد يكون مأساويًا. لقد ارتبط فقدان الهوية الذاتية ـ تبعا للبروفسور جيم فيديليبوس ـ ببعض من أكثر النتائج المقلقة في أبحاث علم النفس:
1-  الإبادة الجماعية والتطهير العرقي: أدى فقدان الحرية الفردية والإيمان بالحتمية الثقافية إلى تحديد بعض القوميات بأنهم " ليسو بشرا " الأمر الذي أدى إلى عمليات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي انتشرت على نطاق واسع في حقبة ما بعد الحداثة وأدت إلى قتل الملايين من البشر. ولا عزاء للثقافات الضعيفة. كما قادت الحتمية الثقافية إلى عدم الاعتراف بمن لم يولدوا بعد بوصفهم بشرا او أشخاصا مما أدى إلى تدميرهم من قبل الملايين واستنزاف الثروات التي كان من الممكن أن تبقى لهم. وباختصار عندما يترك الأمر للمجتمعات لتحدد من يستحق الحياة فعلينا أن نتوقع أكثر من ذلك.
2-  الأخطار على الصحة العقلية:مع فقدان الذات، أو الهوية ومنح الثقافة هذه السلطة الهائلة، أصبحت الصحة العقلية للفرد رهينة الثقافة والمجتمع. وأضحى شعور الفرد بالرضا عن نفسه أو إحساسه بأهميته مرتبطا بالمجتمع وبأولئك الذين يسيرون الأمور فيه.
3-  وهم الأمراض العقلية:فإذا كانت الذات غير موجودة خارج التركيب الاجتماعي، فإن المرض العقلي محض وهم. ذلك أن الخلل لابد أن يكون في البيئة الاجتماعية. وبالرغم من أن هذا صحيح على الأغلب،فإن مثل هذا التفكير يساهم أيضا في الشعور الجذري "بالمسكنة " التي يسهل معها تفسير الإيذاء العاطفي على أساس الاستغلال البحت متجاهلا دور الاستجابة الفردية على سوء المعاملة.
4-  السيطرة على المجتمعات من خلال علم النفس: أصبح علم النفس وسيلة القوى الحاكمة للسيطرة على المجتمع. إذ بدون تطبيق معايير التشخيص الموضوعية فإنه يمكن وصم أي شخص يعجز عن التكيف مع الوضع الراهن او (ربما لا يكون متسامحا بما يكفي أو قد يكون أصوليا) بالجنون.
وعلى الرغم من هذا الهلع الذي يجتاح كثير من المفكرين والنقاد والأدباء والمعالجين النفسيين والاجتماعين من تداعيات ما بعد الحداثة على الفرد وعلى المجتمعات وما أفرزته من ظواهر كالأصولية والعنف والتطرف والإرهاب والفاشية الجديدة، فإن البعض يرى أن للقضية إيجابيات ينبغي الاحتفاء بها. فإذا كانت حياتنا محض قصص مركبة، فلا ضير إذا من إعادة كتابة قصتنا إذا كنا غير سعداء بها. كل ما في الأمر أنه يتوجب علينا تقبل التنوع والتعددية الداخلية وابتكار قصة تستوعب "ذواتنا كلها ". يقول اندرسون " إذا كانت المعاني مركبة من اللغة وعليها، فكل ما علينا فعله هو ان نتعلم كيف نحكي قصة حياتنا على نحو أفضل وأوسع وأكثر ثراء وإدهاشا ".
ليس غريبا إذًا أن يوظف المعالجون والمحللون النفسيون المناورات اللغوية لإحداث التغير المنشود في الحالة قيد العلاج. والمثال الواضح على ذلك هو التدخل المفارقي الذي يحاول فيه المعالج تقديم وصفة بالأعراض: المقاربة التي صممت من قبل المعالج النفساني جاي هالي عام 1976 تحت مسمى العلاج بوساطة حل المشكلات Problem Solving Therapy. حولت هذه المقاربة التركيز من المريض إلى إطار الوحدة الأسرية. وتختلف هذه المقاربة عن العلاجات الأخرى بتركيزها على السياق الاجتماعي أو الوضع الاجتماعي أو المشكلات الإنسانية. يعتقد هالي أن الناس لا يصنعون المشكلات بأنفسهم، وإنما استجابة للبيئة الاجتماعية التي يعيشون فيها. ولذلك فإن العلاج بحل المشكلات يقارب كل مشكلة بتقنيات خاصة بمجمل الموقف الاجتماعي. يحدد هذا العلاج المشكلة بوصفها سلوكا معينا هو في الواقع جزء من سلسلة أفعال بين عدة أشخاص.
اختلاف وجهات النظر بشأن الحقيقة ليس بالأمر الجديد في العلاج النفسي. فقد افترضت المناهج الحداثية أن الأساليب التي ينظر بها المريض إلى نفسه ليست حقيقية من الناحية الموضوعية, الأمر الذي شاركتها فيه ما بعد الحداثة. وهذا هو الاعتقاد المركزي في مناهج العلاج المعرفي والمعرفي السلوكي. إلا أن المناهج الحداثية افترضت أيضا ـ وهو أمر لم توافقها عليه ما بعد الحداثة ـ إن المريض سيتحسن عندما يتمكن من تطوير نظرة أكثر موضوعية أو أكثر إيجابية عن نفسه بوساطة عملية العلاج بحيث تصبح وظيفة المعالج هي توجيه المريض إلى تلك المناطق التي تركت فيها معلومات وخبرات مهمة مهملة أو غير مفهومة كما يجب. بحيث يمكننا القول إن العلاج السلوكي – المعرفي الحداثي يساعد المريض في الانتقال من نظرة غير دقيقة إلى نظرة أكثر دقة عن نفسه على أساس حقائق موضوعية.
تبدو الأمور مختلفة في النسخة العلاجية ما بعد حداثية. فمن ناحية أصبحت حيوات الناس مجرد نصوص (سرديات). إذ يرى ما بعد الحداثيين أن كلا منا يعيش في قصته بمن فينا المعالجين أو الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين. ويقولون أن فرضية تفوق تركيب الحقيقة أو (السرد) لدى المعالج على تلك التي يمتلكها المريض عجرفة وغرور لا يساعد في العلاج. فوجهة نظر المعالج هي أيضا مقيدة ثقافيا تماما كتلك الخاصة بالمريض.
وتبعا لذلك فإن المعالج ما بعد الحداثي لن يحاول تصحيح سرديات المريض بمقارنتها بأي حقيقية معيارية أو مطلقة، بدلا من ذلك، يحاول المعالج أن يمزق سرديات المريض الشخصية عن طريق تحويل مرجعياته. إنه يحاول أن يغير المعاني، وأن يشير إلى نصوص فرعية مهمشة أو تأويلات بديلة.
لابد من الإشارة أخيرا إلى أن بواكير هذه المقاربات كانت عند لاكان، وقد وضع بذرتها الأولى في كتابه (لغة الذات)، الذي نشر عام 1968. يعد لاكان واحدا من بين أربعة فرنسيين " لاكان وفوكو ودريدا وليوتارد " صاغوا بأفكارهم وطروحاتهم مرحلة ما بعد الحداثة. وضح لاكان نظرته إلى الذات في مقالته الشهيرة (مرحلة المرآة) بوصفها مكونة وظيفة الأنا، والتي نشرت أول مرة عام 1949. يقول لاكان: " ليست النفس في الحقيقة أكثر من فوضى من رغبات عابرة ومنفتحة وغير مستقرة لا يمكن إشباعها ".
اعتقد لاكان وفوكو أن الذات المتماسكة الموحدة المستقرة ليست إلا محض وهم، وبينوا أن ذواتنا هي نتيجة عوامل اجتماعية عديدة مثل اللغة والجغرافيا والأسرة والتعليم والسلطةوهي التي تحدد في نهاية المطاف الأنا. من هنا إذا بدأ استبدال الروح بكولاج التراكيب الاجتماعية وبدأ نزيف الذات التي استحالت شظايا وتعزز الشعور بالعزلة والاغتراب.

تعليقات

المشاركات الشائعة