كيركغارد ورفاقه ما بعد الحداثيين. شلايرماخر وشوبنهاور ونيتشه.


 أماني أبو رحمة
اعتمد هيغل والهيغليون من بعده الحلول الميتافيزيقية لجسر الهوة الكانطية بين الذات والموضوع، في عملية حولت العقل إلى شيء غريب تماما على التنوير. لكن، على الجانب الآخر كانت هناك محاولات أخرى. واجه الهيغليون منافسة من الجناح اللاعقلاني الصريح في الفلسفة الألمانية. مثًل هذا الخط: شلايرماخر، وشوبنهاور، ونيتشه، والدانماركي سورين كيركغارد.
انقسم اللاعقلانيون حول ما إذا كان الدين صحيحاــــــ كان شلايرماخر وكيركغارد مؤمنين وشوبنهاور ونيتشه ملحدين ــــ ولكنهم اشتركوا في ازدرائهم للعقل. أدانو جميعا العقل بوصفه ملكة مصطنعة ومحدودة، يجب أن نتخلص منها في سعينا المتواصل نحو الحقيقة. لم يغلق كانط كل دروب الحقيقة، ولكنه بيًن فقط أن العقل لا يمكن أن يأخذنا إلى هناك. الأمر الذي أتاح لنا خيارات أخرى: الإيمان، والعاطفة، والغريزة.
جاء شلايرماخر في عصر هيمنت عليه الفلسفة الكانطية، وأخذ بتلميح كانط أن الدين يمكن أن يساعدنا في التصدي لتهديد العقل التنويري. اشتهر شلايرماخر بعد نشر كتابه(عن الدين: خطابات إلى محتقريه من المثقفين)، ويعد أهم من أحيا البروتستانتية الأرثوذكسية في جيله والجيل التالي له. كان تأثيره كبيراً بلغ حد أن قال عنه اللاهوتي ريتشارد نيبور " كانط البروتستانتية الحداثية".
يمكن القول أن شلايرماخر كان كانطيا بالمجمل، أقله أنه عاش في تسعينيات القرن الثامن عشر في المانيا. احتفى شلايرماخر بنبذ كانط للعقل وسيلة للوصول إلى الحقيقة من كل قلبه. ومثل كانط استفزت الاهانة التي وجهها الطبيعيون والعلماء والعقلانيون للإيمان الصحيح شلايرماخر.
متتبعا يوهان هامان، رأى شلايرماخر أن المشاعر، سيما الدينية، هي صيغة للإدراك المعرفي، صيغة تقودنا للواقع النومينوني. عدا، يقول شلايرماخر، أنها ليست موجهة إلى الخارج قدر توجهها إلى الداخل. لا يمكن للمرء أن يدرك الشيء في ذاته مباشرة، ولكن يمكنه فينومينولوجيا أن يفحص دواخله، مشاعره الأوغل، وهناك سيجد إحساسا غير مباشر بالمقدس الأقصى. يقول هامان إن مواجهة المشاعر الدينية مباشرة يكشف الطبيعة الأساسية للمرء.
 وعندما يكتشف المرء طبيعته الجوهرية، فإن مشاعره الجوانية العميقة التي سيتقبلها طوعا أو كرها هي: التسليم المطلق. الإعتماد المطلق. سينبذ شلايرماخر العقل في سبيل ثيولوجيا العواطف. لا بد للمرء أن يجهد حتى يدرك نفسه من خلال كشف، والاحتفاء بهذه المشاعر. لكن الأمر لن يكون دون ثمن. عليه أن يهاجم العقل، لأن العقل يمنحنا الشعور بالاستقلالية والثقة. تحجيم العقل هو جوهر التقوى الدينيةــ لأنه، هذا التحجيم، سيسمح لنا بالدخول الكامل في مشاعر التبعية والتواكل والاعتماد والتوجه نحو ذلك الكائن الذي نخضع له بشكل مطلق، والذي هو حتى الآن، ودون أدنى شك، الله.
 في الجيل التالي، أضفى كيركغارد، وهو من أتباع هامان النابهين، على اللاعقلانية لمسة عملية. درس كيركغارد في المانيا، وكان مثل كانط أيضا قلقا على الدين بسبب الضربات التي يمطره إياها العلم والعقل. لذلك هلل لفكرة كانط أن العقل لا يمكن أن يصل إلى الشيء في ذاته، النومينون.
 يقول التنوير أن علاقة الأفراد بالحقيقة هي المعرفة. وبمجرد اكتسابها يمكن لهم أن يعملوا ليحسنوا أنفسهم وعالمهم. (المعرفة قوة) يقول بيكون، ولكن بالطبع ليس على طريقة فوكو. وبعد كانط أصبحنا نعرف أن معرفة الحقيقة مستحيلة. ولهذا، بينما نحن مجبرون على العمل في العالم الواقعي، إلا أننا لا نملك المعرفة الضرورية التي نبني عليها خياراتنا. ولأن مصيرنا كله متوقف على القرارات التي نأخذها، فلا يمكننا أن نختار بعيدا عن العواطف. يجب أن نختار، وأن نختار بناء على عواطفنا، على الرغم من أننا نعرف أن اختياراتنا عن جهل وقلة حيلة.
بالنسبة لكيركغارد، الدرس الجوهري من كانط هو أنه لا يجب أن نرتبط بالواقع أو الحقيقة معرفياــ فالمطلوب هو الفعل والولاء، قفزة نحو ذلك الذي لا نعرفه ولكن نشعر أنه جوهري لإضفاء المعنى على حياتنا. وبالتوازي مع الشعور بالحاجة إلى الدين، نحتاج أيضا إلى وثبة لاــــ عقلانية من الايمان. لا بد أن تكون وثبة لأنه بعد التنوير أصبح من الواضح أن وجود الله لا يمكن أن يبرهن بالعقل ويجب أن يكون لا عقلانيا لان الله الذي وجده كيركغارد يعد استحالة عقلية.
ولكن هذه الوثبة إلى ما هو مناف للعقل أزمة بحد ذاتها. أزمة تعصف بكل ما هو أخلاقي أو محسوس أو عقلاني. فكيف إذا يمكن أن نتعامل مع أزمة أننا نريد ولا نريد، في الوقت ذاته، أن نقفز فوق العقل إلى المنافي للعقل.
في كتابه(خوف ورعدة)، نجد مديح كيركغارد لإبراهيم عليه السلام. ابراهيم، في تحد واضح لكل عقل وأخلاقيات، كان مستعدا أن يغلق عقله وأن يقتل ابنه. لماذا؟ لأن الله امره بذلك. كيف حصل ذلك، هل يمكن للرب الرحيم أن يطلب من أب قتل أبنه؟ هذا يجعل الرب قاسيا، ثم ماذا عن وعد الرب لإبراهيم أن من نسله سيكون امم وأنبياء؟ هذا الطلب يجعل من الله مخالفا للوعد. ثم ماذا عن قتل نفس بريئة؟ هذا يجعل منه لا أخلاقي. وماذا عن الألم الذي سيسببه قتل الفتى لأبيه النبي وأمه؟ الاله هنا سيكون ساديا. هل رفض ابراهيم؟ هل جادل ربه؟ لا. هل سأله عن السبب؟ لا. أغلق عقله وأطاع. هذا، في نظر كيركغارد، هو جوهر علاقتنا المعرفية بالحقيقة والواقع. مثل ابراهيم، كل ما علينا هو أن نتعلم كيف نتخلى عن فهمنا وتفكيرنا وأن نصوب أرواحنا تجاه تلك الأحاسيس المنافية للعقل.
نحن لا نعرف، ولا يمكن أن نعرف. مثل ابراهيم تماما. وكل ما علينا هو أن نقفز عميانا إلى المجهول. ابراهيم(فارس الإيمان) لأنه صلب العقل ووثب إلى ما هو مناف للعقل، أعمى وأصم وأبكم. لن تجد ما بعد الحداثة من يصفع العقل على وجه أفضل من هذا الدانماركي المؤمن الوديع.
شوبنهاور، من جيل بعد كانط، ومعاصر لهيغل، رفض بعنف المحاولة الجبانة للعودة إلى الدين بعد أن أطاح به عقل التنوير. وفي حين أن هيغل عبًق لفضاء النومينوني بالروح الجدلية وشعر شلايرماخر وكيركغارد أو تأملوا، بيأس، أن الله قد يكون هناك، فإن مشاعر شوبنهاور كشفت له أن الحقيقة هي الإرادة. الارادة اللاعقلانية بعمق والتصارعية بقوة. الإرادة التي تسعى عمياء إلى اللاشيء، إلى العدم. لن نستغرب اذا أن لا فرصة أمام العقل كي يفهمها: فالفئات العقلية الجامدة والسكيمات المنظمة الانيقة ليس كافية ولا ملائمة للحقيقة. الحقيقة مبعثرة والواقع فوضوي. وكل شبيه يعرف شبيهه. ولذلك فمن خلال اراداتنا، رغباتنا، مشاعرنا وشغفناــ خصوصا تلك التي تحرضها الموسيقى، يمكننا أن ندرك جوهر الحقيقة. ولكن أغلبنا جبان حتى أنه لن يحاول. لأن الحقيقة قاسية ومرعبة. لذلك نتشعبط بالعقل بيأس ــــ العقل الذي يسمح لنا بتنظيم الأشياء، ويجعلنا نشعر بالامان والأمن، ونهرب من دوامات الرعب الذي، في لحظاتنا الأصدق نشعر أنه الحقيقة الحقة. فقط اولئك الشجعان، وهم قلة، على أي حال، الذين يمتلكون الجرأة على فتق حجب العقل واستشعار التدفق العارم.
وبالطبع بعد أن نستشعر قسوة التدفق العارم ورعبه، يأمل شوبنهاور أن نصل إلى الهلاك الذاتي. هذه هي نقطة الضعف التي حاول نيتشه بعد شوبنهاور أن يرتقها، ولم تفعل ما بعد الحداثة شيئا سوى تعميقها إلى حدها الأقصى.
بدأ نيتشه ابستمولوجيا بالتوافق مع كانط بطريقة مفارقة:" عندما يقول كانط: ان العقل لا يشتق قوانينه من الطبيعة ولكنه يصفها للطبيعة" فإن ذلك، فيما يتعلق بالطبيعة، صحيح تماما". كل مشاكل الفلسفة، فيما يرى نيتشه، منذ سقراط إلى كانط سببها تأكيدها على العقل، صعود الفلاسفة الذي لم يعن شيئا إلا سقوط الإنسان، لأنه متى سيطر العقل، فإن البشر، يقول نيتشه في جينيالوجيا الأخلاق،" ما عاد لهم في وجه هذا العالم الجديد المجهول أحد من القادة القدامى، من تلك الغرائز الناظمة المسددة الخطى، ومن حيث لا يدرون ردوا الى التفكير والنظر في العواقب والحساب وتركيب العلل والمعلولات، هؤلاء التعساء قد ردوا إلى عضوهم الأكثر بؤسا والأكثر عرضة للأخطاء". و"كم هو بائس وغامض وعابر وبلا هدف ونزوي هذا العقل البشري". ثم "ولأنه مجرد ظاهرة سطحية تعتمد على دوافع غريزية كامنة، فالعقل بالتأكيد ليس مستقلا ولا مسيطرا على أي شيء".
ما يعنية نيتشه، بتحريضه العاطفي أن نكون صادقين مع أنفسنا، هو الخروج من كل الفئات الاصطناعية والمقيدة للعقل. فالعقل هو أداة الضعفاء الذين يخشون مواجهة الواقع القاسي والصراع ومن ثم فإنهم يشيدون بنى فكرية خيالية للاختباء وراءها". ما نحتاجه في (جينيالوجيا الأخلاق) لإخراج أفضل ما يمكن فينا هو: "الإشتغال المأمون للغرائز المعدلة اللاواعية أو حتى عدم التعقل".
ليس نيتشه أول اللاعقلانيين، فقد ساهم كل من شلايرماخر وكيركغارد وشوبنهاور مع نيتشه بالإطاحة بالعقل عن عرشه، بل أن هيغل وكانط اللذين يظهران دائما بوصفهما ممن أعلوا مكانة العقل كانا أيضا، في الحقيقة، من أوائل من خلخلوا عرشه( كما وضحنا في منشورات سابقة). ويمكن تلخيص أرث اللاعقلانية الذي تسلمه القرن العشرين في أربع نقاط:
1- موافقة كانط أن العقل عاجز عن معرفة الحقيقة.
2- موافقة هيغل أن الحقيقة تصارعية متناقضة و/أو منافية للعقل.
3-استنتاج أن العقل مشوش بمزاعم مستندة على المشاعر والغرائز أو وثبات الإيمان وعليه،أخيرا
4-  فإن اللاعقلانية تساهم في انشاء حقائق عميقة عن الواقع.
مات نيتشه مطلع القرن العشرين في الوقت الذي كانت الفلسفة الألمانية قد طورت خطيين رئيسيين من الفكرـــ الميتافيزيقا التأملية والابستمولوجيا اللاعقلانية. وربما أن ما كان ملحا حينها هو جلب هذين الخطين في توفيقية جديدة تمهيدا لفلسفة ستسود القرن الجديد ـــ ما بعد الحداثة. ومن أنجز تلك المهمة لاحقا هو مارتن هايدغر، كما شرحنا في المنشور السابق.





تعليقات

المشاركات الشائعة