تناقضات ما بعد الحداثية

 

تناقضات ما بعد الحداثية

أماني أبو رحمة

ما بعد الحداثية، في التحليل النهائي، هزيمة ذاتية، وتسخيف ذاتي، وانفجار من الداخل . باختصار، أعتقد أن المشكلة تكمن في أن ما بعد الحداثية، في محاولتها تفكيك المقدمات والمقترحات التأسيسية للحداثية، توظف المقدمات والافتراضات الحداثية التي تسعى إلى تدميرها. لذلك نشعر فعلًا أن العديد من مقدمات ومقترحات الحداثية باقية، وأنه بدلاً من السعي إلى تفكيكها بالكامل، فإن المسار الأفضل سيكون إعادة بنائها أو إعادة تأهيلها. تناقض ما بعد الحداثية فضيتها الأساسية. وتذهب بعيدًا ، بعيدًا جدًا في نقدها للحداثة ، حتى أنها باتت تُختزل في كتلة من التناقضات التي يستحيل التوفيق بينها. في هذه السلسلة سأشرح هذه الفكرة. سأعرض  أمثلة على قوة تناقضات ما بعد الحداثية المُقنًَعة بالدهاء والبراعة.

1.      تنكر ما بعد الحداثية جميع السرديات الكبرى الشاملة أو الرموز الرئيسية، ولكن من المؤكد أن ما بعد الحداثية نفسها سردية كبرى ضخمة ، بل وسيدة الرموز الرئيسية.

2.      تنكر ما بعد الحداثية الحقيقة، ولكن من المؤكد أن كل خطاب ما بعد الحداثية يتم تقديمه بوصفه حقيقة لا تقبل التشكيك.

3.      تُعلن ما بعد الحداثية وفاة المؤلف، وتنكر سلطته؛ لكن مؤلفي ما بعد الحداثة يكتبون نصوصًا حية ويتوقعون أن يتم الاستماع إليهم وفهمهم بوصفهم سلطات موثوقة.

4.      تُمكن ما بعد الحداثية القراء من إعادة كتابة النصوص وفهمها بطرق متعددة. ولكن هل يقبل مؤلفو ما بعد الحداثة إعادة كتابة نصوصهم وفهمها بطرق لم يقصدوها؟

5.      تنكر ما بعد الحداثية التمثيل ، ولكن عندما يكتب ويتحدث ما بعد الحداثيين ، فإنهم يكتبون ويتحدثون لتمثيل واقع ما بعد الحداثة.

6.      يقترح أتباع ما بعد الحداثة أن جميع مفاهيم الواقع مبنية عقليًا أوباراديميًا أو لغويًا. ولكن يبدو أن ما بعد الحداثيين لا يقدمون حقيقة ما بعد الحداثة على أنها مبنية عقليًا أو باراديميا أو لغويًا ؛ يبدو أنهم يطالبون بإعفاء وجهات نظرهم من الطبيعة المبنية للواقع.

7.      يبدو أن أتباع ما بعد الحداثة الذين يقولون أن جميع التفسيرات شخصية ومتعددة ونسبية يقدمون تفسيرهم الخاص للأشياء بوصفه عامًا وفرديًا وموضوعيًا. مرة أخرى لماذا وكيف؟

8.      إن الاسلوب التفكيكي الذي وظفته ما بعد الحداثية لتفكيك الحداثية وكشف طرقها الإمبريالية والسياسية يمكن (بل وربما يجب) توسيعه لتفكيك أُطروحات التفكيكيين وكشف ما تسعى أجندات ما بعد الحداثية نفسها إلى نشره.

9.      تنكر ما بعد الحداثة على العلم موثوقيته باعتباره صياغات لغوية تاريخية مثقلة بالإيديولوجيا وتدخلات السلطة ولا تخلو من تحيزات يسوقها العلم بوصفها محايدة وموضوعية ولاتاريخية وكونية، ولكن ،   ألا يتمتع ما بعد الحداثيين الذين ينكرون العلم بفوائده ؟ ألا يُنظِم  ما بعد الحداثيين الذين ينكرون السببية والعقلانية حياتهم اليومية  بهذه المبادئ؟

10.  يكتب ما بعد الحداثيين الذين ينكرون العقلانية أطروحات عقلانية مطولة (حتى لو كانوا يتلاعبون بالكلمات وبالشكل) ويتوقعون منا  قراءتها وقبولها  بعقلانية.

11.   توقع ما بعد الحداثيين (موت الإنسان). وعلى الرغم من  أن هذه الفكرة التي نظر لها فوكو في ( الكلمات والأشياء) عصية على التبسيط ، إلا أنه يمكن تلخيصها بايجاز في هذا المقطع من الكتاب:  "بما أن الإنسان قد تشكل في وقت حُكم فيه على  اللغة  بالتشتت، ألن يتشتت عندما تستعيد اللغة وحدتها ؟" وبما أن اللغة هنا مرة أخرى [يقصد  الإنعطافة اللغوية في عصره]، ألن نعترف، أن الإنسان سيعود إلى ذلك  اللاوجود  الهادئ الذي كان عليه سابقًا من خلال وحدة الخطاب المتعجرفة؟ كان الإنسان مجازًا يحدث بين صيغتين من اللغة؛ أو، بالأحرى، تم تشكيله فقط عندما تحررت اللغة _ بعد أن كانت موضوعة ضمن التمثيل ، ومنحلة فيه  _  من هذا الموقف على حساب تشتتها الخاص. شكل الإنسان وجوده المجازي في فجوات تلك اللغة المتشظية.  بالطبع، هذه ليست تأكيدات. هي في معظم الأحيان أسئلة لا يمكن الرد عليها؛ يجب أن تُترك  في حالة ترقب، حيث تطرح نفسها  ، فقط مع العلم أن إمكانية طرحها قد تفتح الطريق لفكر مستقبلي". من المنطقي هنا أن نطرح هذا السؤال:  لماذا حول ما بعد الحداثيين هذا التوقع إلى حقيقة دامغة  وأصبح شعار (موت الإنسان) حرفيًا هو عنوان ما بعد الحداثية الصارخ؟ هل يؤمن ما بعد الحداثيين حقًا بفكرة "موت الإنسان"، ويطبقونها على أنفسهم وفي حياتهم. هل أنهم مقتنعون بكونهم نتاج سياقات ما بعد الحداثية التي ينظرون لها من موقعهم التجاوزي، ومن منظوراتهم المثالية؟

12.  يرفض ما بعد الحداثيين الواقع وينكرون أي سبيل إليه، ولكنهم في تنظيراتهم  يحيلون إلى واقع ما بعد الحداثية بموثوقيه تحسدهم عليها الواقعية  الحداثية ، ثم يلفقون تنظيرًا غريبًا لنسختهم المثالية الخاصة ( راجع ؛ نهاية عصر النهايات في هذه الصفحة)، كما ينكر ما بعد الحداثيين النظرية ، ولكن ما بعد الحداثية تحولت على ايديهم إلى أحد النظريات الكبرى  في التاريخ، إن لم تكن أكبرها على الإطلاق.

 

 

 

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة