نهاية عصر النهايات (6): نهاية الأصالة في الأدب والفن؛ التناص والاستيلاء

 

نهاية عصر النهايات

(6): نهاية الأصالة في الأدب والفن؛ التناص والاستيلاء

أماني أبو رحمة

 تنتقد ما بعد الحداثة أي شيء يمكن وصفه بأنه موحد وكلي ومغلق، وتحتفل بكل ما يظهر الانفتاح والتنوع والتعددية. إنها تستخدم مصادر مختلفة وتسيء استخدامها، وتجاور  كائنات تعتبر تقليديًا منفصلة تمامًا، وتتباهى بعدم أصالتها. تتجسد هذه السمات التمثيلية لما بعد الحداثة في شكل التناص، وهو الموضوع والاستراتيجية المستخدمة بكثرة في أدب ما بعد الحداثة. التناص هو موضوع تمت مناقشته بدقة، كما أنه استراتيجية مستخدمة بشكل علني في أدبيات ما بعد الحداثة.

 لا يُنظر إلى النص أبدًا على أنه أصيل وموحد ومستقل ومعزول. يُنظر إليه دائمًا على أنه جزء من سياق أكبر، يعرض بشكل علني روابط وارتباطات بنصوص أخرى. وبالتالي تعتبر النصوص جزءًا من شبكة نصوص. كما يقول فوكو، فإن النص "محاصر في نظام اشارات لكتب أخرى، ونصوص أخرى، وجمل أخرى: إنه عقدة داخل شبكة". "شبكة النصوص" هي بالفعل مفهوم يعكس أفكار ما بعد الحداثة حول الفن والإبداع.

يرتبط موضوع التناص ارتباطًا وثيقًا بمسألة الأصالة. يفسد الافتراض ما بعد الحداثي بأنه لا يوجد شيء اسمه عمل أدبي أصيل أو أصلي المفهوم التقليدي للمؤلف كمؤسسة أصلية ومبتكرة تبتكر أعمالًا أدبية أصلية. ما تقترحه ما بعد الحداثة هو أنه "لا أحد يستطيع أن يكون أول من يروي أي شيء، بل وحتى أن يكون أصل روايته / قصته الخاصة". كل القصص والنصوص كتبت، ولم يبقى لنا إلا التكرار ، و[هل غادر الشعراء من متردم]. هذه هي الأفكار التي يعكسها ويؤيدها توظيف التناص. إن الفكرة القائلة بأن كل نص موجود فقط فيما يتعلق بالنص الآخر يعني أنه لا معنى له إلا ضمن الخطابات السابقة. بعبارة أخرى، يتم تحويل المعنى إلى نص وتداخل نصي. يعكس التناص رفض ما بعد الحداثة للسرد الشامل المغلق، ويتحدى بذلك أي إغلاق ومعنى واحد نهائي. في المقابل، يدعم الانفتاح والتعددية. إذ عندما يتم أخذ النص من سياقه الأصلي ويتم دمجه في نص آخر، تظهر معاني جديدة لا محالة.

توظف "كل" روايات ما وراء القص التاريخي نصوصا من الماضي. عندما ندمج الماضي المكتوب في نص الحاضر، يجري بالضرورة تجسير العالمين وإعادة قراءة الماضي وإعادة تفسيره وإعادة كتابته في سياق جديد وحاضر. بدلاً من إغلاق المعنى، يبدأ التناص في إنتاج معان جديد من نصوص الماضي.

يؤدي إدخال نصوص في سياقات مختلفة أو مواقف خطابية إلى فتحها. عندئذ يكون القراء أحرارًا في إنشاء معاني جديدة، تختلف عن تلك التي ربما أنشؤوها او نسبوها للنص القديم في سياقه الأصلي السابق. هذا يعني أن التفسير والمعنى المنسوب للنصوص قد يختلفان بشكل كبير في الاعتماد على السياق والخطاب الذي تستخدم فيه النصوص.

يقاوم التناص ويتجنب الإغلاق والحقيقة الواحدة والمعنى، وبالتالي لا يرضي انجذاب ما بعد الحداثة إلى التعددية والانفتاح والنسبية فحسب، ولكن أيضًا دور القارئ كمشارك نشط في عملية القراءة وصنع المعنى. يتم تحفيز القراء باستمرار لربط معارفهم وخبراتهم المكتسبة مسبقًا في المواقف الجديدة؛ وقد يتجسد الوضع الجديد من خلال (نشر)غير متوقع وصادم أحيانًا للنص البيني. تعد ما بعد الحداثة مشروعًا مناهضًا لأي وحدة على الإطلاق ، لذا فهي كثيرًا ما تضع أنماطًا وخطابات متناقضة جنبًا إلى جنب، رفيعة وشعبية أو خيالية ووثائقية، وتكسر التوقعات التي يمليها نوع معين من النص. في هذه الحالة، يشعر القارئ بالصدمة من توقعات القراءة التقليدية الخاصة به وتنشط العمليات المعرفية والتعاونية. يحافظ التناص وعملية القراءة الديناميكية على النصوص "حية" لأنها غير مكتملة، ولا تزال مفتوحة لقراءات وتفسيرات جديدة.

في الفن، يوظف ما بعد الحداثيين استراتيجية أكثر تطرفا لتحدي الأصالة، وهي الاستيلاء والانتحال. يشير الاستيلاء في تاريخ الفن إلى ممارسة فنية حيث يوظف الفنانون أشياء أو صور موجودة مسبقًا في فنهم مع القليل من التغيير في الأصل. يمكن تتبع الاستيلاء رجوعا إلى الكولاجات التكعيبية والإنشاءات لبابلو بيكاسو وجورج براك من عام 1912 فصاعدًا، والتي تم فيها تضمين أشياء حقيقية مثل الصحف لتمثيل نفسها. تم تطوير هذه الممارسة بشكل أكبر في الأعمال الجاهزة التي ابتكرها الفنان الفرنسي مارسيل دوشامب من عام 1915. وكان أكثرها شهرة هو (النافورة)، وهي مبولة للرجال موقعة تحمل عنوانًا ومقدمة على قاعدة. في وقت لاحق، استخدمت السريالية أيضًا على نطاق واسع الاستيلاء في كولاجاتها  وكائناتها  مثل (هاتف لوبستر) لسلفادور دالي. في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، ظهرت الصور والأشياء المنتحلة على نطاق واسع في أعمال جاسبر جونز وروبرت روشنبرغ، وأعمال فناني البوب.

ومع ذلك، يبدو أن المصطلح قد دخل حيز الاستخدام على وجه التحديد فيما يتعلق بفنانين أمريكيين معينين في الثمانينيات، ولا سيما شيري ليفين وفناني مجموعة المفاهيمية النيوجيومترية Neo-Geo وخاصة جيف كونز. أعادت شيري ليفين إنتاج أعمال فنية لآخرين، بما في ذلك لوحات كلود مونيه وكاسيمير ماليفيتش. كان هدفها خلق وضع جديد، وبالتالي معنى جديد أو مجموعة من المعاني لصورة مألوفة.

يثير فن الاستيلاء أسئلة حول الأصالة والموثوقية والتأليف، وينتمي إلى التقليد الحداثي الطويل للفن الذي يشكك في طبيعة الفن نفسه أو تعريفه. تأثر فنانو الاستيلاء بالمقال الشهير لواتر بنيامين ( العمل الفني في عصر الاستنساخ الميكانيكي)، وتلقوا دعمًا معاصرًا من الناقدة الأمريكية روزاليند كراوس في كتابها الصادر عام 1985 بعنوان (أصالة الطليعة و أساطير الحداثة الأخرى).

توسع الاستيلاء في الثمانينيات، ولكنه تضخم بشكل مسبوق كثيمة لعصرنا الحالي على يد الفنانيين المخضرمين الذين مارسوه منذ الثمانينيات ولا زالو على قيد الحياة..

على سبيل المثال، منذ أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، ابتكرت الأمريكية شيري ليفين(1947_) أعمالها من استيلاءات على فنانين حداثيين يحظون باحترام كبير. نظرًا لأن العالم مليء بالفعل بالصور، تشكك ليفين في الحاجة إلى أي صور جديدة على الإطلاق وتركز عملها على المحاكاة الساخرة وفكرة الفن من أجل الفن. في عملها((على خطى ووكر إيفانز) After Walker Evans ,1981 التقطت ليفين صوراً للصور الأصلية من كتالوج المعرض. ومن المثير للاهتمام، أنَّ هذه الصور أيضا كانت نسخا. ثم قامت بطباعة الصور بأحجام أصغر أو أكبر من الصور الأصلية وكانت حريصة على إدراج أي شذوذ في النسخ (لوت صور كتالوج إيفانز بالأخضر في الطباعة).

قالت ليفين عن أعمالها، "أنا مهتمة بصنع عمل يحمل هالة بقدر مرجعه. بالنسبة لي، لا يوجد توتر حقيقي بين المرجع والعمل الجديد إلا إذا كان للعمل الجديد هالته الوجودية الخاصة به. خلاف ذلك، تصبح مجرد نسخة، وهي ليست مثيرة للاهتمام". ما تفعله ليفين هو إعادتنا مباشرة إلى الأصل الذي تقوم بنسخه. ما نجحت في القيام به في هذه العملية هو إضافة طبقات من المعنى إلى العمل أكثر مما كانت عليه في الأصل. كما أنها توظف استيلاءاتها لتسليط الضوء على حقيقة أن قلة قليلة من الفنانات من العصر الحداثي حصلن على وضع الفنانة العبقرية وكذلك لتكريم فنانين محددين تحترمهم. تقر ليفين أيضًا صراحة بأنها تريد أن يكون عملها سلعة وأنها تضع قيمة نقدية على كل ما صنعته. وتقول: "لم يكن الغرض من أعمالي أن تكون شيئا سوى سلعا. لقد استغرق الأمر بعض الوقت حتى تم بيع العمل، لكنني كنت دائمًا ما أتمنى أن يتم ذلك، وأن ينتهي به الأمر في مجموعات وفي المتاحف".

كتبت ليفين عام 1981، "أن كل كلمة وكل صورة يتم تأجيرها ورهنها. نحن نعلم أن الصورة ليست سوى مساحة تختلط وتتصادم فيها مجموعة متنوعة من الصور، لا واحدة منها أصلية. الصورة عبارة عن نسيج من الاقتباسات مستمدة من عدد لا يحصى من مراكز الثقافة.... يمكننا فقط تقليد لمحة تكون دائمًا بارزة وليست أصلية أبدًا". وبالفعل، فإن التفسير المعياري لعمل ليفين يدرجها تحت راية النسخ من حيث خصائصه؛ الاستيلاء. على هذا النحو، يقف العمل بوصفه تصويرا من درجة قريبة من الصفر تقريبًا، أو بشكل عام، هو مجرد إعادة عرض؛ وبالتالي، مثل جاهزية دوشامب، فإنها تقدم طريقًا مسدودًا هو أيضًا ثقب دودي فكري. في كتاب هوارد سينغرمان الجديد (تاريخ الفن، بعد شيري ليفين، 1012) لم تكن ليفين مصورة أو كولاجية أو مُلفِّقة أو مُنشأة، ولا حتى فنانة بالمعنى التقليدي، وربما ليست حتى مستولية، لأنها نوع جديد في تاريخ الفن، تحفر نفقا نقديا يخترق الجماليات الحداثية مع إعادة المناقشات الرئيسية للفن المعاصر"،  عن طريق المواد المعقدة والاحتيالية والتفسيرات اللغوية في بعض الأحيان.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة