استراتيجيات ما بعد الحداثة

استراتيجيات ما بعد الحداثة.
أماني أبو رحمة
1-  ربط الابستمولوجيا بالسياسات.

تقع اللغة في مركز الابستمولوجيا ما بعد الحداثية. يختلف الحداثيون وما بعد الحداثيين ليس فقط على المحتوى عندما يناقشون قضية فلسفية أو أدبية أو قانونية وإنما على المناهج والطرق التي يوظفون بها اللغة. وتحفز الابستمولوجيا هذه الإختلافات. تسأل الابستمولوجيا سؤالين حول اللغة: ما هي علاقة اللغة بالحقيقة ؟ ثم، ما هي علاقتها بالفعل؟ وهذه الأسئلة اسئلة فرعية من الاسئلة الابستمولوجية عن الوعي بصفة عامة : ما هي علاقة الوعي بالواقع والحقيقة، وما هي علاقته بالفعل؟ تختلف اجابات الحداثيين وما بعد الحداثين عن هذين السؤالين جذريا.
بالنسبة للواقعين الحداثيين، الوعي معرفي ووظيفي، وهاتان السمتان متكاملتان. فالغرض الأساسي للوعي هو أن ننتبه إلى/ ونعرف و ندرك الواقع. والغرض التكميلي للوعي هو توظيف هذه المعرفة لتوجيه فعلنا في هذا الواقع. ولكن لما بعد الحداثيين اللا_ واقعيين، على النقيض من ذلك، الوعي وظيفي ولكنه ليس معرفي أو ادراكي، لذلك فإن وظيفته ليس لها ما تفعله فيما يتعلق بالإدراك والمعرفة. في قاموس ما بعد الحداثة، يوضح مصطلحا(إماطة اللثام  unmasking) و(البلاغة، الفصاحة، البيان rhetoric) مغزى هذا الاختلاف.
بالنسبة للحداثيين، قناع الاستعارة هو اعتراف بحقيقة أن الكلمات لا يجب أن تُؤخذ دائما حرفيا أو أنها توضح حقيقة بصورة مباشرةـ اذ يمكن للناس أن يوظفوا اللغة ايجازا و مجازا أو لعرض أكاذيب، كما أن اللغة يمكن أن تُحاك على شكل طبقات من المعاني المتراكمة، ويمكن أيضا أن توظف للتغطية أو لعقلنة الأكاذيب والنفاقات. وبالتالي فإن كشف القناع أو اماطة اللثام يعني شرح أو فحص العبارات للوصول إلى المعنى الحرفي أو حقيقة الأمر. عملية اماطة اللثام هذه معرفية ادراكية، تقودها معايير موضوعية، بهدف الوصول إلى معرفة الحقيقة.
بالنسبة لما بعد الحداثيين، على النقيض من ذلك، لا يمكن على الاطلاق أن ينتهي التفسير أو التحقيق بالوصول إلى معنى أو بملامسة الحقيقة. فاللغة لا ترتبط الا باللغة، وليس  أبدا بحقيقة غير لغوية. وبكلمات جاك دريدا , " حقيقة اللغة، وربما أنها حقيقتها الوحيدة، هي أنها تقاوم كل حصر، كل ما بين قوسين".
بمعنى أنه لا يمكننا الخروج من اللغة. اللغة نظام داخلي ذاتي المرجعية، اللغة لا تحيل إلا على ذاتها. بل أن مفردات مثل داخل اللغة وخارجها هي غير ذات معنى في ما بعد الحداثة التي تطمح إلى زعزعة نظام الثنائيات والتسلسل الهرمي الملحق به. لا يوجد هناك معايير غير لغوية تحيل عليها اللغة أو ترتبط بها، لذلك لا يمكن أن يكون هناك أي معيار نميز به الحرفي من المجازي، والحقيقة من الزيف. ولذلك أيضا فإن التفكيك عملية لا نهائية. عملية اماطة اللثام عن المعنى لن تنتهي حتى بحقائق ذاتية، لأن الذاتي يقابل الموضوعي وهذا التمايز بين الموضوعي والذاتي تنكره ما بعد الحداثة أيضا.
فمعتقدات واهتمامات الذات هي تراكيب اجتماعية لغوية، لذلك فان اماطة اللثام عن قطعة لغوية من أجل كشف الغاية الذاتية التي تستند عليها لن يعني الا الكشف عن مزيد من اللغة. وهذه اللغة بدورها ستكشف بعد اماطة اللثام عنها عن لغة وهكذا إلى ما لا نهاية. اللغة هي قناعات في طريقنا لن نكشف أحدها إلا لنصطدم بلغة تحته تحيل إلى لغة وهكذا دواليك.
الذات، في أي زمن محدد، هي بناء معين بمجموعة من المعتقدات والإهتمامات، وتوظف الذات اللغة من أجل ان تعبر عن/ وتطور هذه المعتقدات والإهتمامات. وعليه فإن اللغة وظيفية وهذا يقودنا إلى البلاغة والفصاحة والبيان.
بالنسبة للحداثيين، وظيفية اللغة مكملة لكونها معرفية إدراكية. فالفرد يلاحظ الواقع من خلال حواسه،ويشكل معتقدات مفاهيمية عن الواقع على أساس ادراكه الحسي. ومن ثم يتصرف في الواقع على أساس تلك الحالات المعرفية المفاهيمية والمدركات الحسية.
بعض تلك الافعال في العالم قد تكون تفاعلات اجتماعية وفي بعض تلك التفاعلات تاخذ اللغة وظيفة تواصلية. في تواصلنا مع الآخرين، يجادل بعض الافراد ويسردون و يحاولون التعبير عن معتقداتهم المعرفية عن العالم. البلاغة، من ثم، هي جانب من جوانب الوظيفة التواصلية للغة، تشير الى طرق توظيف اللغة التي تساعد في تفعيل المعرفة  من خلال التواصل اللغوي.
بالنسبة لما بعد الحداثيين، لا يمكن أن تكون اللغة معرفية أو اداة ادراكية. لانها ببساطة لا ترتبط بالحقيقة أو الواقع. ولا تحيل على موضوع قائم، سواء كان طبيعة خارجية او ذاتا محددة. اللغة ليست عن أن تكون مدركا لهذا العالم، ولا عن تمييز الحقيقة من الزيف، ولا عن النقاش والجدال بالمعنى التقليدي المتعلق بتماسك وصلاحية الافكار والاحتمالات. وهكذا تعيد ما بعد الحداثة تعريف البلاغة بالقول: إن البلاغة هي القدرة على الإقناع في غياب المعرفة والإدراك.
يشرح ريتشارد رورتي هذه النقطة في ( عرضية اللغة) ويقول: فشل الوضع الواقعي يوضح أن العالم لا يخبرنا ما هي لعبة اللغة التي نلعبها وأن اللغة البشرية ليست إلا ابتكارات بشرية ". فغرض اللغة إذا ليس أن نجادل بها كي نثبت أو ننفي أي شيء. لأن الجدال لا يكون إلا ضمن/ وليس بين ألعاب اللغة.
في محاولة اقناعنا بنسخته من التضامن في ( العَرَضية، التهكم و التضامن، 1989)، يقول رورتي: "وتاكيدا على توصياتي الخاصة، فانني لن أقوم بتقديم مجادلات ضد المفردة التي اريد استبدالها، بل سأقوم بمحاولة جعل  المفردة التي أفضلها تظهر جذابة من خلال عرض كيف انها قد تستخدم لوصف موضوعات مختلفة". فاللغة هنا (جذابة) فقط في غياب المعرفة، والحقيقة، والجدال.
وبالرغم من كل ذلك فإن رورتي هو الأقل تطرفا بين كل ما بعد الحداثيين الرواد. وهذا واضح من نوع اللغة التي يوظفها في خطابه السياسي. اللغة اداة للتفاعل الإجتماعي، ونموذج كل انسان من التفاعل الإجتماعي يملي عليه أي نوع من اللغة يوظفها بوصفها أداة. يرى رورتي أن هناك ألما ومعاناة في العالم وان هناك صراعات عديدة بين الجماعات، لذلك فإن اللغة بالنسبة له هي أداة لحل النزاعات.
وحتى هذا الحد، فإن لغته تدفع نحو التراحم والتعاطف والحساسية والتسامح، على الرغم من أنه يقترح أن هذه الفضائل لا يمكن تطبيقها إلا ضمن  (مركزيتنا الإثنية): إذ "يجب، عمليا، ان نمنح امتيازا لجماعتنا"، ما يعني بالنسبة له، أن" هناك الكثير من الآراء التي لا يمكننا أخذها على محمل الجد ببساطة".
غير أن معظم ما بعد الحداثيين يرى النزاعات بين الجماعات أكثر قسوة وترجيحاتنا للتعاطف محدودة أكثر مما يتوقع رورتي.
ولذلك فإن توظيف اللغة لحل النزاعات ليس في أفق هؤلاء. ففي النزاع الذي لا يمكن أن يصل إلى حل سلمي، فإن نوع الأداة التي يريدها المرء هي السلاح. وبالنظر الى نماذج التفاعلات الاجتماعية للصراعات التي هيمنت على خطاب ما بعد الحداثة، يمكن أن نفهم انه بالنسبة لمعظم ما بعد الحداثيين فإن اللغة ليست إلا سلاحا من حيث المبدأ.
 وهذا يوضح الطبيعة القاسية لبلاغة ما بعد الحداثة. فانتشار التجريح أو الشخصنة ad hominem، والمغالطات البهلوانية ومحاولات اسكات الاصوات المعارضة، ليست إلا تبعات منطقية لابستمولوجيا اللغة في ما بعد الحداثة. ومع بلاغة كهذه، فإن الحقيقة والزيف ليست قضية: المهم هنا فعالية اللغة ومدى تأثيرها على الخصوم.




تعليقات

المشاركات الشائعة