أن نحيا في الهوامش

أن نحيا في الهوامش
أماني أبو رحمة
منذ الستينيات، أخذ ديريدا تفكيك الميتافيزيقيا، وخاصة ميتافيزيقيا التمركز حول اللوغوس، هدفا نقديا. درس دريدا الفينومينولوجيا في بواكير حياته الأكاديمية الأمر الذي نبهه الى قضية (الرغبة في الحضور) التي تكتسح الفلسفة الغربية. حضور المعنى، والوجود، والمعرفة. والتمركز حول اللوغوس هي تلك الخاصية للنصوص والنظريات وصيغ التمثيل وأنظمة الدلالة التي تولد الرغبة في المعنى والوجود والمعرفة المباشرة المعطاة دون وسيط. ويتطلب ذلك وصولا مضمونا لـ/ ومن ثم التحكم بـ/ حضور هوية مفاهيمية ودلالية وجنسية أو وجودية. التمركز حول اللوغوس هو الحنين إلى الأصل المفقود، المعرفة الكاملة والمؤكدة عن مكان ما في العالم: هو الرغبة في أن نعرف. أن نعرف "الواقع"، العالم الظاهر، والنفس كذات واعية، مع كل الضمانات الثيولوجية التي تتطلبها تلك الإفتراضات. وتعتمد الأولوية الممنوحة للحضور ضمن مركزية اللوغوس، ولكن دون أن تعترف بذلك، على علاقتها مع البنية الثنائية. هذه البنية التي تشيد آخرا  للمصطلح الذي تمنحه مباركتها بوصف الاول والأميز والأفضل، وضد هذا الآخر يمكن أن يحدد الأفضل نفسه. في حالة الحضور مثلا، هناك فئة الغياب، واللاوجود، واللاكينونة، واللا شيء، كلها تضمن كمال وهوية  الحضور والوجود. يُؤسس البناء المستقطب للاقتران الثنائي مصطلحا واحدا من حقل أو نظام معين من المصطلحات بوصفه قيمة موجبة، والذي، من خلال التعريف السلبي، يؤسس "آخرا"  يمكن أن يلقي عليه كل ما لا يرغبه في نفسه أو ما لا يقوى على قبوله. في استبعاده للعناصر التي لا يقوى على الإحتفاظ بعلاقة معها، تلك التي وصمها بـ "نفايات"، "بقايا"، أو "تلوث"، يرسم المصطلح الأساسي حدودا حول نفسه، يلقي بآخره وراءها. الأزواج التمعارضة مثل ؛ العقل / الجسم، العقل / العاطفة، الكلام / الكتابة، الوجود / لاوجود، الأصل / التقليد، الثقافة / الطبيعة، الذات /الآخر، الهوية / الاختلاف، المدلول / الدال الخ، هي المصطلحات التي استجوبها ديريدا في نصوصه الغزيرة. داخل كل زوج، المصطلح الأول هو البدئي، الإيجابي والحاضر، في حين أن الثاني هو التلوث، والفقد، والسلبي، والصورة المقلوبة: سين ولا سين. وضع هذا النظام الثنائي على كاهل  الأزواج التي أنشأها أربعة تأثيرات مهمة: 1) يتم إنشاء المصطلحين بوصفهما متناقضين منطقيا، غير متوافقين ولا يمكن أن تكون هناك وساطة بينهما. إذا كان أحد الأزواج هو الأفضل بحكم الواقع فلا بد أن يستبعد الآخر تماما من البنية قيد الدراسة ؛ 2) الزوج الثنائي لا يقصي أفضلهما الآخر لأنهما ليسا متكافئين فحسب، وانما أيضا ينفصلان تماما عن بعضهما البعض بلا شؤائب تؤرق شرف الأول: ليس هناك مصطلحا ثالثا، لا وسط بينهما. فهما فقط يحددان جميع الاحتمالات المتأصلة في كل حالة؛ 3) يُمنح أحد المصطلحين أولوية منطقية نظرا لقيمته الإيجابية؛ فيما يتميز الثاني فقط بوصفه غيابا أو فقدا للخصائص التي منحت للأول ؛ 4) إذا لم يكن للثاني صفات ايجابية، فسيصبح حاويا بلا شكل، ولا نهاية، ولا تحديد لكل ما ليس هو الأول. اللاسين بلا حدود داخلية، هويته وتماسكه مستمده من علاقته السلبية بسين.
تعتمد التكهنات الميتافيزيقية أواللوغوسية على نموذج التعارض هذا لتوضيح  نفسها. الغياب هو حرمان الوجود، الاختلاف هو عدم وجود الهوية، والجسد هو فقد العقل، وهلم جرا. ويبدو أن هذه الأزواج تقسم المجال الفكري إلى مصطلحات إيجابية وسلبية بشكل طبيعي ومحايد.
يحاول التفكيك الدريدي إعادة إدراج البقايا أو الشؤاب التي استبعدها نظام الأزواج الثنائية، الوسط المستبعد الذي لا يمكن قبوله في النماذج المستقطبة، مرة أخرى في البنية المتعارضة بحيث تتحول صورتها الذاتية. ومع ذلك، علينا أن ننتبه إلى أن التفكيك لا يحاول، كما فعلت جدلية هيغل، التوفيق بين المتعارضين في نوع من "الخنوثة " الإيجابية، ولكن أقصى ما يرجوه هو اجبار المصطلح المهيمن على الاعتراف بجمائل المصطلح السلبي عليه. علما بأن (الخنوثة ) بالذات مصطلح محتفى به في ما بعد البنيوية نكاية بالنموذج الثنائي الذي لا يقبل وسطا ولا ثالثا في مطارته اللاهثة لوهم النقاء والحضور وواحدية التمثيل والمعنى المطلق والهوية بلا آخر والكون المدرك عن وعي كامل  والمعطى على ما هو عليه.




تعليقات

المشاركات الشائعة