المولود: تَكَوُّن إنسان جديد


المولود: تَكَوُّن إنسان جديد
دارمندر ديلون/ مجلة الفلسفة الآن
لوس اريغاري منظّرة ثقافية فرنسية بالغة التأثير، وفيلسوفة ومحللة نفسية.  يمكن القول إن أحدث كتبها(المولود: تكَوُّن إنسان جديد،2017)، هو دفاع مكثف عن الفردية وسط ثقافة تعزز التوافق والإتساق. نهج اريغاري " الفلسفة القارية" - أي رؤية الفلسفة كطريقة للحياة غير قابلة للاختزال لمجرد الدراسة الرسمية - واضح منذ البداية في مقدمتها الملغزة. ولكن لحسن الحظ، عندما نتخطى المقدمة المثقلة بالرطانة، نجد أن المتن الرئيسي قابل للقراءة، وتتطابق استنتاجات اريغاري مع الأسس والخطوط العريضة التي حددتها. تكتب اريغاري بطريقة تكاد تكون علامتها الفارقة ، ابتكارية للغاية، فينومينولوجياـ هيغيلية ـ نيتشوية. بعبارة أخرى، تستجوب المفاهيم من وجهة نظر التجربة الإنسانية مع قدر متساو من التشكيك والافتتان.
باختصار، تدافع اريغاري عن الإبداع الفردي. الفكرة المركزية  للكتاب هي أن رعاية وتربية الطفل اجتماعيا داخل الثقافة الغربية المعاصرة يحد من إمكاناته. تدعو اريغاري في الكتاب للعزلة ولفضاء للتفريد(خلق فرد مميز) وسط شمولية اجتماعية قمعية.
 هنا، يمكننا أن نسمع بوضوح صدي أفكار فريدريك نيتشه (1844-1900)، بالإضافة إلى النظرية النقدية لثيودور أدورنو (1903-1969) وأفكار ميشيل فوكو (1926-1984). فقد حقق هذان المفكران الأخيران في الطرق التي يسعى بها المجتمع الغربي إلى قولبة وتنميط والسيطرة على الذوات، خاصة من خلال الثقافة والتعليم.
إن مصطلح "الذاتsubject "، الذي تم تعميمه من قبل المنظر الثقافي ستيوارت هول مثقل بالمعاني. وفي ظل المعايير الاجتماعية الحديثة، لا يمكن أن تتحدث عملة التفريد (خلق فرد مميز) دون عرقلة. ذلك أن  الفرد يخضع لعدد لا يحصى من القوى التي تسعى للسيطرة عليه: "عندما يفترض أن [الطفل] قد وصل إلى كونه إنسانا...  فذلك يعني أنه قد أصبح منتجًا مصنوعًا بدلاً من أن ينمو  بطريقته الفريدة". وترغب اريغاري في أن " نجازف أبعد ما هو مختبر بالفعل في الحياة" (ص 7). تفكر اريغاري في هذه المصطلحات لأنها، مثل نيتشه من قبلها، مهتمة بزعزعة ما تعتبره خطابًا سائدًا منحطا "يضيع فيه المرء بسبب الملل والاشمئزاز والحزن والضجر" (ص 27).
مرردة صدى نيتشه، ترى اريغاري أن البشرية بما هي عليه يجب التغلب عليها، وأن العادات الحالية ليست مجهزة لتسهيل ذلك. واستجابة لهذا التحدي، تتحول اريغاري إلى تقاليد من الشرق، مثل اليوغا، كوسيلة لتغذية الفردانية من الداخل: "إن تهذيب التنفس أو التحكم فيه يسمح لنا بأن نتحمل عزلة تفردنا " (ص:x). وهي تعترف بأن تحدي المعايير لا يخلو من الخطر، ولكن مركزة النفس من خلال تنظيم/ والسيطرة على التنفس، على سبيل المثال، يمكن الأفراد من تطوير الشجاعة واليقظة لتجاوز المعايير الاجتماعية المهيمنة.
يلقي (هكذا تكلم زرادشت، 1883-1885) بظلاله الكبيرة على كتاب اريغاري : إنه العمل الوحيد الذي ورد ذكره في الببليوغرافيا، ومصدر السطر الختامي في الكتاب. الأمر الاشكالي أو ربما الذي لا يُغتفر، وفقا للطريقة التي يختار المرء التعامل معه، هو أن نص اريغاري في الأساس ليس إلا عرض لتحولات الروح الثلاثة التي وضعها نيتشه في (هكذا تكلم زرادشت)، ولكن دون أن تعترف بذلك صراحة.
في "التحولات الثلاثة"، يفترض نيتشه كيف يمكن للمرء أن يغير نفسه من "روح الإبل" حامل الأعباء، والذي يفهم الأخلاق حوله ولكنه لا يرغب في المشاركة فيها ؛ إلى "روح الأسد" التي تسعى إلى تحقيق الحرية، والتي تنشد تحرير نفسها من أعباء الجمل وتأكيد الفاعل الأخلاقي، ثم إلى "روح الطفل" المحررة، القادرة على خلق قيم جديدة. يشرح نيتشه ذلك من خلال وصفه لروح الطفل على أنها تمثل "البراءة والنسيان، والبداية الجديدة، والرياضة، والعجلة ذاتية الدفع، والحركة الأولى، والنعم المقدسة... والروح التي ستريد الآن إرادتها، الروح المنقطعة عن العالم تفوز الآن بعالمها الخاص”.
وبناءً على هذه الفكرة "ارادة إرادته الخاصة "، تجادل اريغاري أنه لا يجب إجبار الطفل على التكيف مع العالم، بل "تحويل هذا العالم وفقًا لقدراته ورغباته" (الكتاب، 28). ومن الواضح أن هذا ادعاء طوباوي للغاية بل مضارب ايضا، لأنه لا يمكنه أن يصف ما سيشمله هذا التحول. كما أنه أمر خلافي: هل أن ممارسة مثل هذا الإرادة سيؤدي بالضرورة إلى نتائج مفيدة اجتماعيًا. تواصل اريغاري السير خلف نيتشه، فانتصارها للإبداع الفردي وسط، وضد، المعايير المقبولة اجتماعيا ولكنها قمعية، يعني أن أي استجابة من هذا النوع ستكون مؤذية بالضرورة بسبب انحرافها الشديد ـــ تقول: "لا يتم التسامح مع الطموح أو الإبداع المهم " (ص 59).
تعتقد اريغاري، مثل العديد من أسلافها في التقاليد القارية، أن اللغة، بدلاً من إعطاء الأفراد الأدوات للتعبير عن أنفسهم بشكل كامل، قد حدّت من إمكاناتهم. وهذا يعني أننا نفشل حاليًا في استخدام اللغة بطريقة قد تساعد الأفراد على تحقيق إمكاناتهم: "في المدرسة، في ثقافتنا، يتعلم الطفل ما هو، أو ما سيكون، العالم، ولكن ليس ماذا أو من هو بحد ذاته. لتعليمه ما هو العالم، فإن المعلمين يرشدونه أولاً لاستخدام اللغة. يتم تعليمه كيفية التحدث، والقراءة، والكتابة، كما لو كان يتعامل مع أداة، آلة، حتى لا نقول سلاحا، وهكذا ستصبح اللغة وسيطا بين نفسه والعالم. آداؤه اللغوي سيعادل الهيمنة على العالم ”(ص 57).
سحب بساط البداهة والألفة من تحت اقدام اللغة - بتوظيف اللغة لنقد اللغة - ما هو إلا جزء آخر من مشروع اريغاري من أجل خلخلة المعايير. تدعي اريغاري أن كل طفل قادر على "النمو الطبيعي" وفقا لقدراته الخاصة. ومع ذلك، فإن هذا النمو يُفسد من قبل أولئك الذين يعتمد عليهم كل طفل في البداية لأن الثقافة التي نُنشئ بها الأطفال لا تسهم في ازدهارهم الطبيعي الفردي. في ملاحظة كان من الممكن أن تكون في النقد الثقافي اللاذع (ديكالكتيك التنوير) لثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر (1944)، تؤكد إريغاري أن "التقنيات المختلفة، عندما تحل محل حركة النمو الطبيعي، ستشل وتشوه [ هذا النمو]، وتحول الإنسان إلى نوع من إنسان آلي حيث يقوم جزء [مقدم الرعاية]، الذي تحدده الثقافة، بالتحكم في جزء آخر [الطفل]، والذي يبقى مخلصًا للطبيعة، من أجل توجيهه في حين أنها تستغل طاقته "(ص. 15).
أدورنو، الحاضر بالرغم من غيابة في كتاب اريغاري، لديه الكثير ليقدمه عند معالجة مشكلة الخصوصية اللغوية للبشر والهيمنة على الطبيعة. وباهتمامها بمكافحة الفكرة القائلة إن اللغة والعلوم تسمحان بمعرفة دقيقة عن العالم الطبيعي وبالتالي السيطرة عليه، فإن مفهوم أدورنو (أو بالأحرى لا -مفهوم) عن "التفكير بلا - هوية ‘non-identity thinking"، يمكن أن يحتضن أمل اريغاري الطوباوي بخلق فرد فريد ومتفرد خارج الهيمنة الثقافية.
التفكير بلا هوية يتضمن لعب المفاهيم ضد بعضها البعض في تصفيات نهائية للكشف عن عدم تناسقها. عند القيام بذلك، يتم الكشف عن أن الشمولية زائفة، ولا يزال هناك جذوة أمل خافتة في أشكال جديدة من التواصل والإبداع ليست مجرد أدوات للمعايير الاجتماعية القائمة.

التواصل غير المتطابق  يقابل طموح اريغاري في أنه "من الآن فصاعداً، لم تعد القضية إدراك ما أو من الذي يظهر لنا وفقًا للخطاب الذي سمعناه عنه أو عنهم، ولكن الحفاظ على فضاء لما لم - يُقل، لم _ يُحدد، لم - يُعرف، والذي يمكن أن يظهر فيه هذا الآخر كشيء أو شخص لم يُعرف أو  لم يُعترف به بعد "(ص 66). تجمع اريغاراي صراحةً وضمنا بين خطي الفكر النتشوي والادورنوي، وتقول إنه من خلال العزلة والتواصل غير المهيمن ، يمكن للأفراد الانخراط في خطاب يختلف عن المنطق السائد. لا يخدم منطق التفريد (صناعة الفرد) النيوليبرالي السائد سوى الخطاب السائد، القائم على المنافسة الرأسمالية وخطر الندرة. في مقابل ذلك، تشحن اريغاري/ وتضرم النار من جديد في تشخيصات نيتشه للضيق والإعياء الذي عانى منه قرنه حين قال "مُثُلنا الدينية والثقافية والسياسية غير قادرة على ضمان سلامة البشرية أو تقديم خطة لبناء مستقبل يتوافق مع حاجاتنا الحالية "(ص. 99).  لا تخجل اريغاري من ممارسة إبداعها غريب الاطوار،  ترد على النقاد بالتأكيد على أن أولئك الذين يضحكون من مقترحاتها الطوباوية يساهمون "فقط في إهدار ما تبقى من طاقتنا الحياتية لأتمتة عالم يتحول فيه الناس إلى روبوتات - وهو ما يعادل تصنيع كائنات شبيهة بالقرود "(ص:103). من خلال ملاحظة الكثير من السياسات الحزبية الحالية وتعليم النخب الحاكمة، يمكن القول إن تشخيص اريغاري للأسف استشرافي شديد التبصر.
To Be Born: Genesis of a New Human Being by Luce Irigaray,2017.

تعليقات

المشاركات الشائعة