المنظورات الفوكووية: تعليقات نقدية


المنظورات الفوكووية: تعليقات نقدية
أماني أبو رحمة

كان لفوكو تأثير عميق في كل مجال تقريبا من مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية. ومما لا شك فيه أن أحد أهم جوانب عمله هو توعية المنظرين بالعمليات المتفشية للسلطة وإبراز الجوانب المشبوهة في العقلانية والمعرفة والموضوعية وإنتاج المعايير الاجتماعية. ففي تحليلات مفصلة، يوضح فوكو كيف يتم حبك السلطة في جميع جوانب الحياة الاجتماعية والشخصية؛ في المدارس والمستشفيات والسجون والعلوم الاجتماعية. متتبعا نيتشه، يستجوب فوكو الصيغ والقيم الفكرية التي تبدو مفيدة وقيمة (مثل الإنسانية والحرية والتقدم الخطي والفردية والمخططات الطوباوية) ويجبرنا على إعادة النظر فيها من جديد. وتماما مثلما بين نيتشه أن للقيم العليا "أصول" وضيعة، على سبيل المثال، كيف تتجذر الأخلاق في الفجور والأحقاد المريرة، وكيف أن جميع القيم والمعرفة هي مظاهر لإرادة السلطة، يعرض فوكو الروابط بين السلطة والحقيقة، سيما ما يحلو لها أن تطلق عليه الحقائق العلمية، ويصف كيف تتشابك القيم الليبرالية الإنسانية وتدعم تقنيات الهيمنة.
ينتقد فوكو بقوة المنظرين الشموليين الذين يرون السلطة فقط بمصطلحات الطبقة أو الدولة، والمنظريين الماكرويين الذين يحللون المؤسسات وتفاعلاتها مع تجاهل السلطة تماما. ولكن، على الرغم من مآثره ومزاياه، فإن عمل فوكو يعاني أيضا من مثالب عدة فير رأي نقاد لا يُستهان بهم.
أجمع [خوسيه ميركيور ومايكل والزر وتشارلز تايلور ويورغن هابرماس] على أن فوكو يعترف ببعض الجوانب الإيجابية للعقل التنويري، إلا أنه يفشل في فعل ذلك حيال المؤسسات والتقنيات الحداثية. يأخذ نقده للحداثة جانبا واحدا ؛ تركيزه على الأشكال القمعية للعقلانية ويفشل في تحديد أي جوانب تقدمية للحداثة. فالحداثة في مخطط فوكو، لم تجلب أي تقدم في الطب والديمقراطية، ولكنها نجحت فقط في تعزيز فعالية الهيمنة. ولعل وصف هابرماس لفوكو أنه "شاب محافظ مناهض للحداثة" إشكالية وذات بعد واحد أيضا كما تراها نانسي فريزر، إلا أن هابرماس لاحظ أيضا بشكل صحيح جدا أن فوكو يصف جميع جوانب الحداثة بوصفها تأديبا وانضباطا ويتجاهل الجوانب التقدمية من الأشكال الاجتماعية والسياسية الحداثية من حيث التقدم في الحرية، والقانون، والمساواة. وبشكل عام، تميل كتابات فوكو إلى أن تكون أحادية الجانب تنظيرا وتطبيقا. في عمله الأركيولوجي ميز فوكو الخطابات على المؤسسات والممارسات، ثم في عمله الجينيالوجي أكد فوكو على الهيمنة مقابل المقاومة وتكوين الذات، ثم في أعماله الأخيرة حلل فوكو التكوين الذاتي للذات بعيدا عن اعتبارات السلطة الإجتماعية والهيمنة. كما أن تحوله من تكنولوجيات الهيمنة إلى تكنولوجيات الذات كان مفاجئاً وبلا تمهيد أو مقدمات، لم ينظر فوكو مطلقا بصورة كافية للإشكالية المزدوجة: البناء المؤسساتي /والذات الفاعلة، معاً.
لاحظت فريزر أيضا مع هابرماس ووالزر أن فوكو نادرا ما يعبر عن تفضيلاته الأخلاقية والسياسية. وفي الحقيقة فإن النقد الموجه لأعماله يتركز في معظمه حول فشله في تحديد / والدفاع عن الافتراضات المعيارية المتضمنة في تحليلاته، وبالتالي فإنه لا يوفر الأساس النظري لانتقاداته القوية للهيمنة. وعلاوة على ذلك فقد أشار اليساندرو فونتانا وماورو بيرتاني إلى أن تركيز فوكو على نموذج الهيمنة والحرب ليس كافيا لـــ "شرح تعدد الصراعات الحقيقية التي أثارتها سلطة الإنضباط أو آثار الحكومة على أنماط السلوك المنتجة بواسطة السلطة الحياتيه. وعلاوة على ذلك، فإن تركيز فوكو على الانضباط والتطبيع دفع العديد من المؤلفين مثل موريزيو لازاراتو وآخرين للتفكير في أن تحليل فوكو قديم بدعوى أن الانضباط في المجتمعات المعاصرة ليس وسيلة محورية للاخضاع أو الحكم. هناك أشياء عن تأثيرات السلطة على الحياة تركتها أطروحة فوكو غامضة ـــ وربما أن الأكثر أهمية هو التساؤل عن المقاومة والسلوك المضاد ودور الفاعل النشط. ففي حين يقول فوكو إن السلطة تُولد المقاومة كما أنه يشير أحيانا إلى تكتيكات المقاومة، إلا أن عمله يفتقر تماما إلى وصف ملائم للمقاومة مقارنة بنطاق وتفاصيل وصرامة مقارباته لتقنيات الهيمنة. وبعبارة أخرى، إن (جينيالوجيا المقاومة) لم تكتب قط وهذا قصور واضح ألقى بظلاله على عمل فوكو كله وأثار انتقادات واسعة بين المفتونين به والمعتدلين والمستائين منه. ومن المثير للاهتمام، أن فوكو وفي مقاله المتأخر (الذات والسلطة، 1982) يقترح طريقة بديلة لدراسة علاقات السلطة: من وجهة نظر مقاومة السلطة بدلا من ممارسة السلطة. لكن فوكو لم يعمل على هذا الاقتراح، كما أنه لم يحدد أبدا ولا بأي صيغة مصطلحات مثل النضال وعلاقات السلطة والمقاومة والمعارضة، وهي المشكلة ذاتها التي أثارها ضد تحليل الصراع الطبقي الماركسي. ربما يقول قائل إن فوكو قد تناول نظرية المقاومة السياسية كشكل من أشكال تقنيات الذات بوصفها استجابة خلاقة لقسرية الممارسات، ولكن عمل فوكو في الثمانينيات يفتقر إلى أبعاد سياسية جوهرية. وعلى الرغم من أنه كان في صف العمل السياسي التحرري بل وشارك فيه عمليا، إلا أن فهمه (المحايد أخلاقيا) الذي يدين به لنيتشه عن طبيعة السلطة وبناء هيكلية الفكر الاجتماعي جعلت الفعل التوجيهي ضمن تلك الصيغة مستحيلا.
يطرح فوكو تصورا عن السلطة كقوة غير شخصية مجهولة تُمارس بغض النظر عن أعمال ونوايا البشر. ومنهجيا فإن فوكو يضع بين قوسين مسألة من يسيطر على السلطة ويستخدمها لأي مصالح، من أجل أن يركز على الوسائل التي تعمل بها. ومهما كانت أهمية هذا المنظور لتأكيد أن السلطة تعمل في مجال قوى منتشرة لعلاقات القهر والنضال، إلا أنه يحجب حقيقة أن السلطة تُراقب وتُدار من قبل عناصر محددة في مواقع السلطة الاقتصادية والسياسية، مثل أعضاء المجالس التنفيذية للشركات، والمصرفيين، ووسائط الإعلام الجماهيري، وجماعات الضغط السياسية، أو من هم فوق القانون في البنتاجون والبيت الأبيض والمسيطرين على مؤسسات الأمم المتحدة.
يفتح فوكو مساحة لإعادة التفكير في السلطة والاستراتيجيات السياسية، إلا أن المحتوى الإيجابي في تنظيره ضئيل للغاية وليس لديه أي وسيلة على الإطلاق لوضع أساس معياري لنقد الهيمنة ذلك أنه يرفض، فيما يبدو لبعض النقاد، معايير التنوير والحداثة جملة وتفصيلا. وبما أن فوكو يركز على المستوى المايكروي للمقاومة، فإنه لا يعالج بشكل كاف مشكلة كيفية تحقيق تحالفات داخل الصراعات المحلية أو كيف يمكن تطوير حركة سياسية معارضة. إذا كان من المهم بالفعل مضاعفة واستقلالية أشكال المقاومة لمواجهة مخالب السلطة العديدة، فمن المهم أيضا ربط هذه النضالات المختلفة لتجنب التشظي. ويصبح السؤال: كيف يمكننا أن نخلق، بلغة غرامشي، "كتلة مضادة للهيمنة"؟ هذا هو السؤال الذي يهم غواتاري، وأرنستو لاكلاو وموف، وبعض النسويات، وفريدريك جيمسون، ولكن فوكو لا يُجيب.
في بعض الأحيان، يبدو أن فوكو يعترف بالمشكلة، عندما يتحدث عن "خطر البقاء على مستوى النضالات الظرفية والطارئة" و"خطر عدم القدرة على تطوير هذه النضالات بسبب عدم وجود إستراتيجية عالمية أو دعم خارجي. لكنه يتحاشى بعد ذلك المشكلة جملة وتفصيلا، ويعود إلى الإصرار على فعالية "الصراعات المحددة والمحدودة"، ويتحدث كما لو أن النضالات الماكرووية الأكبر سوف تأخذ بطريقة أو بأخرى شكلها من تلقاء نفسها وبصرف النظر عن استراتيجيات ونوايا من البشر. وعلاوة على ذلك، فإن فوكو نادرا ما يحلل الدور الهام للسلطات الماكروية مثل الدولة أو رأس المال. وبينما نجده في (تاريخ الجنون) و(الانضباط والمراقبة)، يشير أحيانا إلى السلطة الرأسمالية المحددة، وفي تاريخ الجنسانية يرى أن الدولة عنصر مهم في "السلطة الحياتية"، إلا انه لم ينظر بجدية للقوى الماكروية في عمله. يمكن القول، لمن يريد الدفاع عن فوكو، إن نيته هي تقديم رؤى جديدة للسلطة كقوة انضباطية منتشرة، ولكن مع ذلك، يجب أن تكون منظوراته المايكرووية مرتبطة بشكل أكثر ملاءمة مع المنظورات الماكرووية الضرورية لإلقاء الضوء على مجموعة واسعة من القضايا والمشاكل المعاصرة مثل سلطة الدولة (كما تتجلى في القوانين القمعية أو تقنيات المراقبة القوية على نحو متزايد) واستمرار الهيمنة الطبقية وهيمنة رأس المال. وكما يلاحظ بولانتزاس (1978)، فإن فوكو يقلص على نحو خطير الأهمية المستمرة للعنف والقمع العلني. بالنسبة لبولانتزاس، على النقيض من فوكو، " فإن العنف البدني الذي تحتكره الدولة يختفي بشكل دائم خلف تقنيات السلطة وآليات الموافقة: وهو مدرج في شبكة الأجهزة الإنضباطية والإيديولوجية؛ وحتى عندما لا يُمارس مباشرة، فإنه يشكل مادة الجسم الاجتماعي الذي تتطبق عليه الهيمنة . لا ينكر بولانتزاس صحة وجهة نظر فوكو عن السلطة الإنضباطية، إنه يصر فقط على خطأ كونها خلاصة سلطة الدولة والقمع الذي يرى بولانتزاس أنها شروط إمكانية مجتمع الإنضباط. ومع ذلك، فإن إهمال الاقتصاد السياسي والنظريات الماكرووية ثغرة متكررة في كل نظرية ما بعد الحداثة، ليس عند فوكو فحسب. من أجل تحليل مرض لعمليات السلطات الماكروية الشمولية سيتعين على فوكو تعديل نهجه بوصفه "النظرية كأداة theory-as-tool-kit "[حيث لا يعيش الناس فقط في ثقافة وانما يوظفون عناصرها لتبرير وفهم سلوكياتهم وقراراتهم]، واعتماد أسلوب أكثر منهجية للتحليل. في الواقع، هناك العديد من المواضع في نصوصه حيث تزل قدمه وينزلق نحو مزاعم ومواقف شمولية ويحاول أن ينظر لأنواع معينة من الوحدات أو الأنظمة. وكثيرا ما تجد بيانات عامة عن السلطة والسيطرة التي تنطبق على جميع المجتمعات: "في أي مجتمع، هناك علاقات متعددة للسلطة" يعتمد وجودها على إنتاج وتداول "اقتصاد معين من الخطابات والحقيقة"
وبالمثل، فقد تحدث عن علاقات السلطة التي "تحدد تداخلاتها خطوط الهيمنة العامة" حيث "يتم تنظيم الهيمنة في شكل استراتيجي متماسك ومتحد بصورة أو بأخرى ". بل أنه أشار إلى "الوظيفة العالمية لـ.. مجتمع التطبيع ". وهكذا، يستخدم فوكو مفاهيم عالمية وشمولية ويحظرها في الوقت ذاته، مما يؤدي إلى "تناقض أدائي" ( كما يقول هابرماس).
يقول نقاد فوكو إن خلافهم معه ليس أن هذه التصريحات أو التحليلات المعممة خاطئة أو غير دقيقة، لأنهم يؤيدون صيغ النظرية المنهجية، ولكن بسبب أنها تتعارض مع هجماته الشديدة على "طغيان الخطابات الكونية والسرديات الكبرى". وبقدر ما تفترض السلطات الإنضباطية "أداءا عالميا"، فإن تحليلها سيتطلب بالضرورة شكلا من أشكال التحليل العالمي أو المنهجي.
يفشل فوكو، مثل ما بعد البنيويين الآخرين ـــ يقول منتقديه ــــ في التمييز بين الأنواع المشروعة وغير المشروعة من الشموليات والنظريات الماكرووية العامة، على سبيل المثال بين طرق التحليل المفتوحة وغير المتجانسة التي تموضع عناصر منفصلة في الظاهر في سياق مشترك من التحديد، والطرق المتجانسة التي تطمس الاختلافات بين الظواهر المختلفة. فوكو، في الواقع، يوظف كلا النوعين من التحليل، بالرغم من مزاعمه أنه ضد ضد الفكر الشمولي بالمطلق. إذا كان تحليله لـ "الانتظام في التشتت" في "أركيولوجيا المعرفة" مثالا على نظام معقد ومفتوح، فإن هجومه الشامل (حتى كتاباته في الثمانينيات) على الحداثة والعقلانية والمعرفة هو مثال على نهج اختزالي مغلق. ينتهك فوكو، بطرق عديدة، مبادئه المنهجية الخاصة "باحترام الاختلافات".
وتلخيصا لما سبق من انتقادات يمكننا القول إن فوكو محاصر بالتزامات النظريات المتضاربة. هو ذاته مفكر متضارب يتأرجح عمله بين إضفاء الطابع الشمولي ونزع الشمولية معا في تنظيراته عن الدوافع والخطابات والسياسات الحياتية وتدمير الذات وإحيائها ومهاجمة أشكال الهيمنة والتخلي في الوقت ذاته عن اللغة المعيارية والسرديات الكبرى. في بعض الأحيان يهاجم التنوير والنظرية الحداثية بينما في أوقات أخرى يؤائم نفسه مع تراثهما التقدمي.
تسعى مواقفه اللاحقة إلى تأكيد الذات في صيغة الفردية التي لا تنسجم مع التركيز على النضال السياسي للجماعات المضطهدة. من الناحية الشخصية، فإن فوكو الذي غالبا ما يرتبط مع ما بعد الحداثة، انهى مسيرته، وللمفارقة، مؤكدا النقد التنويري والأخلاق اليونانية منغمسا في دراسة العصور القديمة والكتابة بأسلوب الكلاسيكيين. وفي أوقات مختلفة، وظف فوكو خطاب ما بعد الحداثة، في إشارة إلى أشكال جديدة من المعرفة وفجر عهد جديد في( الكلمات والأشياء) وإلى شكل جديد من الحقوق ما بعد الانسانية( في السلطة / المعرفة) وإلى أجساد وملذات جديدة في( تاريخ الجنسانية)، وإلى "(شكال جديدة من الذاتية ) في آخر مقالاته .
وعلاوة على ذلك، في أعماله المتأخرة رحب فوكو بالفلسفة كمشروع للتفكير النقدي في الزمن المعاصر، في "هذه اللحظة الدقيقة التي نعيش فيها". ومع ذلك، تخلى فوكو في نهاية المطاف عن حماس ما بعد الحداثة ليعود إلى المحفوظات المتربة من العصور القديمة. وهكذا لم يتراجع عن "ما بعد الحداثة الغامضة والمثيرة للقلق". فحسب، بل أنه أصبح شيئا من الكلاسيكية والحداثة مع عناصر كانطية، ومع الاستمرار في الوقت ذاته في مشروع ما بعد الحداثة حين رفض وجهات النظر العالمية من أجل تبني الإختلاف وعدم التجانس. هنا، نجد خليطا معقدا انتقائيا من عناصر ما قبل الحداثة والحداثة وما بعد الحداثة في فوكو، ولكن الملفت هو تراجع عناصر ما بعد الحداثة أكثر فأكثر في أعماله المتأخرة.










تعليقات

المشاركات الشائعة