التفكيك وتضميناته الأخلاقية.

أماني أبو رحمة.
دخل مصطلح التفكيكية إلى الخطاب الفلسفي عام 1967، عندما نشر جاك دريدا ثلاثة كتب: (الكتابية والاختلاف)، و(الغراماتولوجي)، و(الكلام والظواهر). أصبحت التفكيكية مرادفة لإسم دريدا. ولكن لا بد من القول أن التفكيكية قد تطورت من التقليد الفينومينولوجي. فمن ناحية حوّر دريدا فكرة هايدغر في (الكينونة والزمن) عن "هدم" تاريخ الأنطولوجيا الغربية، بمعنى تفكيك المفاهيم التاريخية عن الوجود من أجل كشف الخبرة الجوهرية التي تولدت منها هذه المفاهيم. ومن ناحية أخرى، أخذ دريدا عن هوسرل فكرة (الإيبوخية) والتي تعني التوقف عن الحكم *epoche*, وأن نضع بين أقواس العالم الطبيعي الخارجي الممتد في المكان, والمتتابع في الزمان: تعليق الاعتقاد بأن العالم موجود بصورة مستقلة عن الخبرة. يهدف كلا من تفكيك هايدغر وتعليق هوسرل الكوني إلى نقد المفاهيم المترسبة(إذا ما استعرنا مصطلح فوكو) والمقبولة على ما هي عليه. وبالمثل تهدف تفكيكية دريدا إلى نقد البنى والمفاهيم والمعتقدات التي تبدو بديهية. وبهذا المعنى فإن النقد التفكيكي كلاسيكي (تقليدي أو كانطي) يهدف الى توضيح محدودية صلاحية المفاهيم والمعتقدات، بل وحتى عدم دقتها. أي أنه يهدف بعبارة أخرى إلى نبذ الأوهام التي ولًدتها.
يمكن القول بوجه عام أن التفكيكية تستهدف وهم الحضور، فكرة أن الوجود حاضر ومتاح أمام أعيننا. بالنسبة لدريدا، تتضمن فكرة الحضور العطاء الذاتي والبساطة والنقاء والهوية والركود. لذلك فإن التفكيكية تعمل على توضيح أن الحضور ليس معطى على ما هو عليه، وليس بسيطا على الاطلاق، وليس نقيا خالصا، ولا ذاتي التماثل وليس ساكنا أو راكدا. إنه دائما ما يعطى بوصفه شيئا آخر، معقدا، غير نقي، متباينا، ومتولدا.ومع ذلك فإن التفكيكية اكثر من مجرد مسعى نقدي. ذلك أن لها تأثيرات ايجابية. وعلى الرغم من أن التأثيرات التي تقدمها تأخذ أشكالا متعددة، الا أن التفكيكية باختصار تقودنا إلى خبرة. ومرة أخرى، ومثل تفكيك هايدغر وايبوخية هوسرل، فإن تفكيكية دريدا ستقودنا إلى خبرة الزمن. أو لنكن أكثر دقة، فإنها تهدف إلى خبرة ما يقع قبيل الفصل بين الزمان والمكان. أي قبيل الحضور. وفي الحقيقة فإن التفكيكية تهتم بخبرة ما يولد الحضور. ولأنها تولد الحضور، فإن هذه الخبرة لن تكون حضورا؛ لا بد أن تكون لاــ حضور. فالمصدر غير الحاضر للحضور بالنسبة لدريدا، هو عملية تباين وتفاضل لا تفصل ولا توحد بشكل كامل ونهائي حالات الزمان أو أبعاد المكان على الاطلاق. في وقت مبكر من حياته المهنية، نحت دريدا مصطلح الاختلاف المرجأ (المرجئ) “différance” للاشارة الى هذا التجاوز الفائق  ultratranscendental  لخبرة التباين أو التمايز. منح اضافة “a,” الى المفردة “difference” التي تعني الاختلافات الحقيقية المتولدة فعلا، حالة الإحساس النشط بالاختلاف الذي لا يتوقف وبالتالي فإنه يؤجل تحقيق الهوية (المعنى). وعلى الرغم من أن مصطلح “différance” هو المصطلح الأشهر لدريدا، إلا أنه استحدث وعلى مدى حياته المهنية وتداخلاتها مع العديد من الموضوعات مصطلحات كثيرة. منح دريدا المفرادات القديمة أبعادا جديدة موظفا منهجه التفكيكي مثل: عدم التقرير undecidability، والفارماكون pharmakon، والفسحة khôra، والطيف specter، والعدالة justice، والديموقراطية democracy، والضيافة hospitality، و المفارقة التاريخية anachronism.
تشير كل هذه المفردات إلى خبرة الحياة بقطع النظر عن السياق. واذا ما مكننتنا التفكيكية من خوض غمار هذه الخبرة، فسنتمكن أيضا من تغيير طريقة معيشتنا، وهو الهدف الذي يقول دريدا أنه بذل عمره المهني في تحقيقه؛ أن يكون للتفكيكية تأثير أخلاقي وسياسي علينا.

تعليقات

المشاركات الشائعة