ما بعد الحداثة، ما بعد الكولونيالية.
أماني أبو رحمة.
ساهمت نزعة تفكيك السرديات الكبرى ذات الطبيعة الشمولية
المطلقة ومحاولة اختراق تنميطات السلطة ذات الطبيعة المتعالية سياسيا واقتصاديا
وإنسانيا وتاريخيا، في ظهور ما يعرف بالنظرية الكولونيالية وما بعد الكولونيالية
ضمن تيار ما بعد الحداثة. وتعد تلك النظرية من أهم النظريات النقدية التي استطاعت
اختراق الأوساط الأكاديمية حول العالم وإنشاء العديد من مراكز البحوث والأقسام
العلمية باسمها. كان الاهتمام منصبا على استخدام تلك الدراسات والكتابات بوصفها
استشهادات وأمثلة لدعم الأسس النظرية التي يطرحها نقاد ما بعد الحداثة. غير أن هذه
الدراسات سرعان ما تراكمت كما ونوعا لتشكل حقلا معرفياً ودراسيا مستقلا وقائما
بذاته، وأن كان يُعد، من الناحية التاريخية على الأقل، منضويا تحت مظلة ما بعد
الحداثة الواسعة. أتسع حقل الدراسات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية ليشمل
بتأثيراته النظرية والتطبيقية التاريخ الحديث والدراسات الثقافية والنقد الأدبي
والنظرية النقدية وحتى نظريات الاقتصاد السياسي.
قام نقاد
الكولونيالية وما بعد الكولونيالية بجهود بحثية كبيرة وجادة لإعادة قراءة النصوص
الأدبية والثقافية في ضوء علاقات القوة والهيمنة التي شهدتها الحقبة الاستعمارية
والتي امتدت من القرن الخامس عشر إلى النصف الثاني من القرن العشرين تقريبا.
واستمرت الدراسات لتشمل فترة ما بعد الكولونيالية , وهي فترة نجاح حركات التحرر
الوطني وقيام الدولة الوطنية المستقلة في البلدان التي كانت تحت السيطرة
الاستعمارية. ومن ذلك التوصيف العام تتضح المساحات الواسعة التي تتعامل معها تلك
الدراسات، فهي تأخذ بعين الاعتبار جميع الكتابات والأنماط الثقافية والاجتماعية
التي ظهرت بتأثير من النشاط الاستعماري للدول الغربية، سواء تلك المؤيدة أم
المعارضة. وتنطلق الدراسات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية من نفي الفرضية
المثالية القائلة باستقلالية الأعمال الأدبية والفنية والجمالية عن المؤثرات
الاجتماعية والسياسية والتاريخية بشكل عام. حيث تذهب إلى أن جميع أشكال ومظاهر
الوعي البشري مرتبطة، وبشكل جوهري، بالظروف التاريخية والاجتماعية المحيطة
والمنتجة لذلك الوعي. ويظهر واضحا تأثير الفلسفة الماركسية وفكر كل من غرامشي
وفوكو وادوارد سعيد على هذه النظرية. تنقل الدراسات الكولونيالية وما بعد
الكولونيالية مفهوم الصراع من وسطه الاجتماعي الطبقي، كما هو في الفكر الماركسي،
إلى نطاق أممي أوسع وأكبر. حيث يصبح الصراع بين الدول المستعمرة (بكسر الميم)
والدول المستعمرة (بفتح الميم). غير أن جوهر الصراع يبقى واحدا، وهو فرض الهيمنة
والاستغلال والاستعباد وتثبيت علاقات التبعية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية
والثقافية. إن واقع الصراع في بعديه المكاني والزماني يطبع النشاطات الثقافية
بطابعه المهيمن. ويؤكد ادوارد سعيد على أننا " ينبغي أن نأخذ بالاعتبار التفاوت
اللجوج المستمر في القوة بين الغرب وغير الغرب إذا أردنا أن نفهم فهما دقيقا
أشكالا ثقافية كالرواية، والإنشاء العرقغرافي والتاريخي، وبعض أنماط الشعر
والمغناة، حيث تكثر التلميحات إلى هذا التفاوت وتكثر البنى القائمة عليه. وأقول
هنا، أنه حين تتلاقى دوائر ثقافية مثل الأدب والنظرية النقدية التي يفترض أنها
حيادية، متكئة فوق ثقافة أضعف... وتؤولها باستخدام أفكار عن جواهر غير أوروبية
وأوروبية لا متغيرة، وعن سرديات حول التملك الجغرافي، وصور الشرعية والخلاص، فإن
العواقب الصادمة كانت وماتزال هي تقنيع موقف القوة وإخفاء مدى تقاطع تجربة الطرف
الأقوى مع الأضعف واعتمادها عليه,، بكل ما في ذلك من غرابة".
إن سعيد يضع يده هنا، وأن بصورة عرضية، على الغاية
النهائية للدراسات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، ألا وهي رفع الأقنعة
المزيفة من على وجه الثقافة الامبريالية وكشف مدى الزيف والمراوغة اللتان تنطوي
عليهما الأفكار العقلانية والتنويرية والنزعة الإنسانية المخادعة والتي تحاول
الثقافة الإمبريالية تقديمها بوصفها الواجهة البراقة للوعي الجمعي الغربي. وبشكل
أكثر تحديدا، فإن غاية تلك الدراسات هي تفكيك السرديات الشمولية الكبرى التي أنتجتها
الثقافة الامبريالية وفضح جماليات تزييف الواقع وتنميطه.
وتشير الأدلة التاريخية إلى أن تلك السرديات الكبرى كانت
قد انطلقت مع بدء الحملات الاستكشافية والاستعمارية الأوروبية، والتي تجسدت بشكل
أكثر وضوحا من خلال اكتشاف كولومبوس لقارة أمريكا عن طريق المصادفة أثناء محاولته
اكتشاف طريق بحري يوصل إلى الهند بدون الاتجاه شرقا عام. لم تكن تلك الأراضي
المكتشفة حديثا خالية من السكان، بل كانت مأهولة بالسكان المحليين. شكلت هذه
الحقيقة عقبة ذات طبيعة مادية ومعنوية في الوقت ذاته أمام البعثات الاستكشافية
الاستعمارية، وأثارت إشكاليات تتعلق بدلالات مصطلح الاستكشاف الجغرافي للأرض
المسكونة من قبل أناس محليين وملكية الأرض والهوية وحق التصرف في الموجودات من
طبيعة وممتلكات وبشر. ومن هنا انبثقت بدايات الأزمة الأخلاقية والثقافية التي
واجهتها الثقافة الغربية عند محاولتها إقامة حضارة جديدة على أرض مستوطنة من قبل
سكان محليين.
وفي كتابه الموسوم (المواجهات الاستعمارية: أوروبا
والسكان الكاريبين المحليين 1492-1797) يشير الباحث بيتر هولم إلى أن السرديات
الكبرى التي تشكلت مبكرا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر تعكس محاولة
الأوروبيين المستعمرين تكوين صورة نمطية عن السكان المحليين اعتمادا على القصص
والأساطير والمبالغات والخرافات التي تناقلها البحارة وعادوا بها إلى أوطانهم. وقد
بقيت تلك السرديات فاعلة في الوعي الغربي وبعيدة عن المسألة والتحقق الموضوعي حتى
يومنا هذا. ولم يخلو هذا التنميط من قصدية ذات دوافع كولونيالية عدائية. فقد نجحت
السرديات الكبرى في تقديم السكان المحليين أو الأصلانيين بصورة تجمعات بشرية
وقبائل همجية وبدائية، معظمهم من آكلي لحوم البشر ولا يمتون بصلة للروح الإنسانية
المتحضرة ولا للأخلاق المسيحية.
إن هذا التنميط لطبيعة حياة السكان المحليين الأصلانيين
ومحاولات تزييف الواقع التي تمت من خلال الإصرار على نفي وجود أي نوع من أنواع
الحضارة الإنسانية عنهم لم يكن بريئا ولا محايدا. فقد كانت إشاعة مثل تلك الصور
ونشر مجموعة من السرديات التي يختلط فيها الواقع بالخيال في البلد الأوروبي الأم
وبين أفراد المجتمع الأوروبي المسيحي على قدر كبير من الأهمية. إن عمليات التزييف
الثقافية التي قام بها المستعمرون كانت تهدف في الأساس إلى تجاوز الأزمة الأخلاقية
والثقافية التي قد تنجم عن عمليات الإبادة الجماعية والقتل المنظم والتشريد
والتهجير التي مارسها هؤلاء المستعمرون ضد السكان المحليين. فقد وضعت السرديات
المبكرة ـ عن همجية وبربرية الأقوام المستوطنة في الأراضي المكتشفة حديثاـ تلك
الأقوام خارج دائرة الإنسانية المتحضرة وبعيدا عن رحمة الرب المسيحي، كون تلك
الأقوام هم من عبدة الأوثان والأرواح الشريرة والشيطان. وبالتالي فلم يكن ينظر إلى
عمليات القتل والإبادة الجماعية بوصفها جريمة بشعة ولم تثر أي تحفظات أخلاقية أو
أي نوع من الشعور بالذنب داخل المجتمع الأوروبي المتحضر أو في ثقافته الإنسانية
وأخلاقه المسيحية الصادقة. لقد قامت جميع السرديات الكولونيالية الكبرى التي ظهرت
منذ القرن السادس عشر على أساس خطاب فكري وحضاري واحد. وفي هذا الصدد يؤكد سعيد
"أن اللافت في هذه الإنشاءات هو الصور المجازية التي يواجهها المرء باستمرار
في أوصافها لـ(الشرق السري) إضافة إلى التنميطات التي تخلقها لـ(العقل) الأفريقي
(أو الهندي أو الأيرلندي أو الجمايكي أو الصيني)، والمفاهيم التي تدور حول إيصال
الحضارة إلى شعوب بدائية أو بربرية، والأفكار المألوفة إلى درجة الإزعاج حول
اقتضاء الجلد بالسياط أو الموت أو العقوبة المسرفة حين يسيئون (هم) السلوك أو
يتمردون, لأن(هم) في الأغلب، يفهمون أفضل فهم لغة القوة والعنف، ف(هم) ليسوا
مثل(نا) ولهذا السبب، فان(هم) يستحقون أن يحكموا ".
وتبعا لذلك، صار
يًنظر إلى مهمة المستعمرين الأوروبيين بوصفها عملا أخلاقيا ودينيا تبشيريا
وبطوليا. قدم المستعمرون أنفسهم ـ في نوع من أنواع التزييف الثقافي ـ بوصفهم يسعون
لنقل الحضارة والتمدن والإنسانية إلى هؤلاء السكان المحليون. ووضع الأوروبيون
أنفسهم في موقع أعلى إنسانيا، وصاروا ينظرون إلى تلك الأقوام نظرة دونية أعطتهم
الحق في فرض أنفسهم أوصياء على أصحاب الأرض الأصليين. وصار العنف الذي يمارسونه
عليهم مبررا من النواحي الأخلاقية والدينية والإنسانية.
كان ينظر إلى البحارة الأوائل الأسبان والبرتغاليون
والإنجليز والفرنسيون بوصفهم مغامرين شجعان وفاتحين يحملون معهم إرثهم الحضاري
والثقافي إلى أراضٍ مازالت خارج مملكة الله، وبناة لعالم جديد تتحقق فيه كل قيم
العدالة الإلهية والتحضر والمدنية. لقد أنطلق هؤلاء المستكشفون المستعمرون بحثا عن
حلم ولن يسمحوا لمجموعات من القبائل المحلية أن تفسد عليهم حلمهم الذي تحقق فجأة.
وجاءت تلك السرديات الكبرى التي انتشرت في الوطن الأم لتجعل من كل عمليات القتل
والإبادة والتدمير أفعالا بطولية ذات دوافع أخلاقية وحضارية عالية.
لقد شهد القرن التاسع عشر أوج النشاط الاستعماري
الكولونيالي, وفيما كانت بريطانيا العظمى تخسر مستعمراتها في أمريكا, كان التوسع
البريطاني في شبه القارة الهندية وقارة أفريقيا يشهد أعلى معدلاته.
كان التوغل الأوروبي في القارة الأفريقية يسعى إلى
الاستفادة من الثروات الطبيعية الهائلة التي تنعم بها هذه القارة السوداء، وتوفير
الأيدي العاملة لأزمة بناء العالم الجديد في أمريكا عبر تجارة الرقيق. ومن
المفارقة أن هذا القرن بالذات شهد ازدهار الحركات الفكرية والاجتماعية والسياسية
التي تقوم على أساس الأفكار الليبرالية والعقلانية والتنويرية. فقد انتشرت تعاليم
الفيلسوف الفرنسي الشهير جان جاك روسو(1712- 1778) وجاءت الثورة الفرنسية في أواخر
القرن الثامن عشر بشعار "الحرية، المساواة، الأخوة"، وانتشرت في
بريطانيا العظمى كتابات فلاسفة ما بعد التنوير أمثال جون لوك(1632-1704) وديفيد هيوم
(1711-1776) ووليم غدوين (1756- 1838)، الداعية إلى إقامة مجتمع جديد ينبذ التمايز
الطبقي ويحترم الحرية الفردية ويقوم على أساس عقد اجتماعي ذو نزعة عقلية وإنسانية
شمولية.
غير أن هذا
العقل الأوروبي الجديد وقع في تناقضات حادة وهو يواجه إشكاليات تتعلق بالممارسات
الاستعمارية لحكوماته الجديدة والموقف من تجارة الرقيق. وهكذا فقد أصبحت للحرية
والليبرالية حدود جغرافية لا يجب أن تتجاوزها، وكانت تلك هي حدود القارة الأوروبية
التي يسكنها الإنسان الأبيض المتحضر والمتمدن. أما خارج هذه القارة البيضاء فإن
الخطاب الذي يجب أن يسود هو خطاب العبودية والتمييز العنصري والاستعلاء الثقافي
والحضاري والعنف. لم تكن النخب المثقفة الأوروبية في تلك الفترة التاريخية تستطيع
مواجهة التحديات التي تفرضها شروط تطبيق أفكارها الإنسانية خارج حدود قارتها. لقد
كان ذلك يعني التخلي عن الثروات الطبيعية والموارد البشرية اللازمة لبقاء وازدهار
النمط الاقتصادي الرأسمالي، والذي وصل إلى أعلى مستوياته في ظل السياسات
الامبريالية، وانهيار دولة الرفاهية والمجتمع البرجوازي. لم يكن الخيار أخلاقيا أو
فلسفيا بل كان في حقيقته اقتصاديا وسياسيا مجردا. يشير الناقد ما بعد الكولونيالي
البارز هومي بابا إلى أن الفكر الأوروبي الإنساني التنويري لن يكشف إلا عن مفارقة
ساخرة إذا ما وضع في السياق الكولونيالي لتلك الحقبة.
اعتمدت الدول الاستعمارية استراتيجيات ثقافية لمصادرة
تاريخ وثقافة وحضارة الدول المستعمرة (بكسر الميم). ولا تقل تلك الاستراتيجيات
أهمية عن الاستراتيجيات العسكرية والسياسية الكولونيالية التي تبنتها الدول
الاستعمارية لفرض هيمنتها وأحكام سيطرتها على الدول المستعمرة (بفتح الميم). لم
يكن الهدف من السرديات الكبرى التي أطلقتها الثقافة الكولونيالية تبرير عمليات
القتل والإبادة والتهجير والتشريد التي تقوم بها قواتها العسكرية والسياسية ضد
السكان المحليين فحسب، وإنما محاولة مصادرة التاريخ المحلي وتزييفه وربطه، وبشكل
قسري، بتاريخ الدولة المستعمرة (بكسر الميم) وتمحورت مركزية الثقافة الكولونيالية
حول فكرة تفوق الجنس الأبيض البيولوجي والتاريخي وتفوق البناء المؤسساتي والسياسي
الأوروبي.
ولعل هذا ما يكشف بوضوح أن السرديات الكبرى الشمولية
للثقافة الكولونيالية ما هي إلا محاولات لتزييف الواقع وتحريف التاريخ، وأن للخطاب
الثقافي وظيفة تلفيقية لا تتفق والتصور المثالي الذي قدمته الحداثة الغربية لهذا
الخطاب بوصفه معبرا عن السعي نحو فكرة الكمال الإنساني والسمو وتحقق العقل الكوني
الشمولي من خلال العلم والفلسفة والآداب والفنون. لقد ساهمت الدراسات ما بعد
البنيوية في كشف الفجوة بين الوعي الإنساني والخطابات التمثيلية التي ينتجها من
جهة، وحقيقة ما هو واقعي من جهة أخرى. بل وذهبت إلى أنه لا يوجد واقع ولا حقيقة
قائمة بصورة مفارقة، تقع خارج حدود الخطاب والنصوص التي تشكل بنيته، يمكن للوعي أن
يتوجه نحوها بصورة قصدية من أجل الكشف عنها والسيطرة عليها. ذلك أن كل ما هناك هو
أنساق خطابية ونصوص تتداخل من خلال آليات تناص تعيد إنتاج نفسها إلى ما لانهاية.
كان لهذا التصور للواقع وللعالم بوصفه مجموعة من الخطابات الإنشائية والنصوص
المتداخلة أكبر الأثر على الأدب والفن في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية. لم
تعد الواقعية بمختلف أشكالها صالحة بوصفها منهجا أدبيا وفنيا بعد تبدل النظرة إلى
ماهية وطبيعة الواقع. وقد كشف فلاسفة ومفكرو ما بعد الحداثة عن حقيقة أن معظم
خبراتنا ومعارفنا عن الحياة والعالم من حولنا إنما هي تراكيب لغوية تأويلية أنتجها
الخطاب أو السرديات الكبرى التي يخضع لها وعينا الجمعي، وأن كل ما نملك في وعينا
وما نتداوله رمزيا بوصفه الواقع والعالم إنما هو محاكاة لسطح فاقد للعمق ودوال
عائمة بدون مدلولات. وتحولت الدراسات الثقافية من البحث في العلاقة الجدلية بين
الوعي والواقع إلى البحث في كيفيات تشكل الثقافة وتثبيتها بوصفها تنظيما غير مادي
وشبكة من المعاني تقوم على التبادل الرمزي للدوال وللصور. وعلى هذا الصعيد يمكننا
الإشارة إلى دراسات كل من بيير بورديو وميشيل دو سيرتو ولوي ألتوسير في فرنسا،
وريموند وليامز والآن سنفيلد وجونثان ديلمور في بريطانيا، وستيفن غرينبلاث ولويس
مونترو وجوناثان غولدنبرغ في أمريكا، بالإضافة إلى الجهد الفكري والبحثي للفلاسفة
الذين تم تناولهم من قبل بشيء من التفصيل. فقد اهتم بورديو بالرأسمال الرمزي
والتبادل الرمزي وبالتشكيلات الاجتماعية بدلا من الطبقة والصراع الطبقي وملكية
وسائل الإنتاج، وأنشغل ميشيل دو سارتو بأنثروبولوجيا الممارسات الاجتماعية في
الحياة اليومية، ودرس لوي ألتوسير أدوات أيديولوجيا السلطة وآلياتها في السيطرة
والهيمنة، بينما أطلق على البحوث والدراسات التي قام بها ريموند وليامز وآلان
سنفيلد وجونثان ديلمور مصطلح "المادية الثقافية" وتمحورت حول الظروف
المادية لتشكل الثقافة وتطورها، وتبلورت عن دراسات غرينبلاث ومونترو وغولدنبرغ
مدرسة نظرية نقدية عرفت باسم "التاريخانية الجديدة". اعتمدت كل تلك
الاتجاهات في دراستها للثقافة على فحص عدد كبير من الوثائق من حقول متنوعة
للخطابات من أجل أن تتبين طبيعة التسلسلات الهرمية للقيم والتصورات المشيدة ضمنيا
والصلاحيات والشرعيات المتواترة داخل الثقافة التي تشكل الوعي والذاكرة الجمعية
للمجتمع.
تعليقات
إرسال تعليق