السرديات بين ليوتار وسعيد وفوكو.
أماني أبو رحمة.
هيمنت فكرة العمل على كشف
الأنساق المضمرة وتعرية الخطابات المؤسساتية والتعرف على أساليبها في ترسيخ
هيمنتها وفرض شروطها على الذائقة الحضارية للأمة، على النشاط النقدي والنظري في ما
بعد الحداثة. والأنساق الثقافية هي مكونات ذهنية أولية لشخصيتنا الثقافية
والسلوكية تترسب في أعماق اللاوعي الجمعي لتشكل مضمرات إيديولوجية وتصبح فاعلة عبر
الزمن وموجهة لسلوكنا الشخصي وممارستنا الاجتماعية ونتاجاتنا الثقافية. وهذه
المضمرات تكون ما يعرف بالأصل الذهني في الوعي الجمعي الذي يعمل بوصفه نموذجا
للقياس عليه ويجري الالتزام به. ويكون النسق متعاليا على الفكر النقدي العقلاني
ومنغرسا في عمق الثقافة القومية وبعيدا عن النقد والمساءلة. ويحافظ النسق أو
المضمر الذهني على ديمومته وفاعليته من خلال عملية إعادة إنتاج ذاته بأشكال واليات
متعددة ومتنوعة داخل الثقافة، ومن خلال تراكمات نصوصية ينوجد داخلها بوصفه دلالة
مضمرة بعيدة عن مناطق الوعي العقلاني أو النقدي المباشر. ويعد هذا التصور لمعنى
الثقافة الأساس النظري الذي قامت عليه مدارس نقدية وأدبية مهمة مثل النقد النسوي ونقد
ما بعد الكولونيالية ونقد الأقليات السود في أمريكا.
يقابل
مفهوم النسق الثقافي، وإن بصورة عامة, مفهوم السرديات في فكر ادوارد سعيد. ويختلف
مفهوم السرديات عند سعيد عن تعريف ليوتار للسرديات الكبرى. كما يوظف سعيد مصطلح
السرد توظيفا مغايرا تماما عن الدراسات البنيوية السردية. فقد ربطت الدراسات
البنيوية السردية بين "القص" و"السرد"، وركزت على دراسة الأدب
السردي المتخيل. وأنشأت عليه حقلا نظريا وتطبيقيا عرف "بالسرديات " وهو
فرع من حقل نقدي أشمل وأعم يعرف "بالشعرية". انشغلت السرديات البنيوية
بدراسة المستوى التركيبي للنص بوصفه بنية جمالية منقطعة عن السياق، وشملت تطبيقات
النقد السردي الحديث للنصوص الروائية والقصصية الحديثة والتراثية على حد سواء. أما
ادوارد سعيد فقد وظف مصطلح "السرد" بوصفه " تشكيل عالم متماسك
متخيل، تحاك ضمنه صور الذات عن ماضيها، وتندغم فيه أهواء، وتحيزات، وافتراضات
تكتسب طبيعة البديهيات، ونزوعات وتكوينات عقائدية يصوغها الحاضر بتعقيداته بقدر ما
يصوغها الماضي بتجلياته وخفاياه، كما يصوغها بقوة وفاعلية خاصيتان هما: فهم الحاضر
للماضي، وانتهاج تأويله له. ومن هذا الخليط العجيب، تُنسج حكاية هي تاريخ الذات
لنفسها وللعالم، تمنح طبيعة الحقيقة التاريخية، وتمارس فعلها في نفوس الجماعة، وتوجه
سلوكهم وتصورهم لأنفسهم وللآخرين، بوصفها حقيقة ثابتة تاريخيا ".
وقد
نقل سعيد هذا المصطلح من حقل الدراسات البنيوية إلى النقد الثقافي وجعله مدخلا
أساسيا لدراسة وتحليل السياق الثقافي. أصبحت السرديات تعني منظومة من المفاهيم
تتداخل فيها مكونات " الدين واللغة والعرق والأساطير والخبرة الشعبية وكل ما
تهتز له جوانب النفس المتخيلة. غير أن ما هو الآن حقيقة تاريخية يمثل الأمة
وتاريخها في وعي الذات الجماعية، لا يخرج بهذا المعنى عن كونه متخيلا ".
وبذلك تتحول الأمم نفسها إلى سرديات، ويتحول الصراع، ليس داخل المجتمع الواحد فقط،
بل حتى بين الأمم، إلى " القوة على ممارسة السرد، أو على منع سرديات أخرى من
أن تتكون وتبزغ... ويبلور سعيد وجها خطيرا للسرديات يتمثل في تشكل سرديات رسمية
لتاريخ معين ثم سعيها الدائب إلى منع سرديات مغايرة من الظهور". والسرديات
الرسمية عند ادوارد سعيد تقابل الخطاب المؤسساتي أو خطاب السلطة عند مشيل فوكو.
وهكذا
ينهار المعنى التقليدي للثقافة منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي ليحل محله
معنى يقوم على نسبية الحقيقة وغياب الموضوعية التجريدية ورفض النزعة الإنسانية
والمثالية. فالوعي الجمعي لجماعة بشرية أو مجتمع ما لا يمثل إدراكا موضوعياً
لمفردات الواقع، بقدر ما هو تراكمات لمضمرات أيديولوجية وانساق ذهنية تشكل بنية
ثقافية تنتج تصورا خاصا لهذا الواقع. وغالبا ما يكون هذا التصور متحزبا أو منحازا
وساعيا إلى فرض نفسه بالقوة والهيمنة. أي أن "الخطاب" داخل أي ثقافة
يكاد يكون في أغلب الأحيان تلفيقيا وزائفا ينزع نحو ممارسة سلطة قوة تعمل لصالح الفئات
المهيمنة اجتماعياً. ولعل من أبرز المظاهر السائدة في الثقافة المعاصرة للتعرف على
طبيعة التوجه الثقافي أو السياسي في مجتمع معين، وضمن مدة زمنية محددة، هو ما عرف
"باستطلاعاًت الرأي". وهي فعالية تتداخل فيها النشاطات الإعلامية
والثقافية والسياسية والاجتماعية بشكل كبير. وتكتسب استطلاعاًت الرأي أهميتها في
المجتمع الحديث من افتراضها المسبق وجود شبه إجماع ضمني على كونها أداة محايدة
وناجحة للكشف عن حقيقة الموقف الجماهيري وبصورة ديمقراطية تجاه ظاهرة معينة. تصدى
الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي المعروف بيير بورديو لهذه الظاهرة بالدراسة والتحليل،
وتوصل إلى أن ظاهرة "الرأي العام" هي ظاهرة مفتعلة ومصطنعة لخدمة أهداف
سياسية، و" بالتحديد، لخدمة الفئات المهيمنة اجتماعياً. فمن خلالها، تحاول
هذه الفئات تثبيت مواقعها أو تقويتها، أو إبعاد أي مخاوف أو مخاطر تهددها،أو
التأكيد على سياسة معينة أو برنامج معين أو التأكيد على شرعيتها".
ويؤكد
بورديو، في السياق نفسه، أن ظاهرة "الرأي العام" نفسها قد تصبح تعبيرا
عن شكل للهيمنة الاجتماعية والثقافية بدلا من كونها أداة ديمقراطية.
ومحصلة
لكل تلك المقولات النظرية لما بعد الحداثة أصبح من الطبيعي ترادف مفردات مثل
"القوة" و"الهيمنة" و"الثقافة" و"
المعرفة". ويشير الباحث وليم غراسي إلى أن مهمة الباحث ما بعد الحداثي أصبحت
تقوم ـ وبشكل أساسي ـ على " إظهار كوكبات القوة- المعرفة المخفية بشكل مؤقت
من دون إنشاء تأويل تفسيري جديد يصبح ماديا بصيغة نظرية إجمالية جديدة ".
تعليقات
إرسال تعليق