السيدة مونرو والسيد دولوز


السيدة مونرو والسيد دولوز
                                       أماني ابو رحمة.

 لا يرى دولوز وغواتاري نظرية التحليل النفسي البنيوي، التي تربط نظام الدلالة بعقدة أوديب، اختراعا متأخرا ولكنها الواقع الخاص للرغبة الحداثية. نتخيل أن هناك أصلا أو حضورا أو وفرة واكتمالا وفيضا اموميا وراء نظام الإشارات التي يتم تركيبها. ونتخيل أيضا أنه إذا فقدنا هذا الامتلاء البدئي فلا بد أن يكون ذلك بسبب قانون يحظر/ أو أب يحرمنا من متعتنا. النظام بأكمله مبني على الإحساس بالذنب والفقد الأصلي. هناك، يقول دولوز وغواتاري، منذ افتتاح الحضارة، مركز متخيل لنظام الدلالة. هذا المركز هو الرمز الاجتماعي والسياسي للملك أو المطلق الذي نتخيله بوصفه مؤلف أو أصل القانون. في الحداثة والرأسمالية، مُنح هذا الرمز الاجتماعي والسياسي تفسيرا أودبيا؛ إنه الأب (أو الأب المتخيل في اللاوعي) الذي يفرض القانون. نتخيل كائنا/موضوعا أموميا مفقودا نتبادل الدوال لأجله، ونهجر لأجله أيضا رغباتنا المحددة، من أجل الدخول في النظام الرمزي والدلالي برعاية الأب. شخّص التحليل النفسي، وفقا لدولوز وغواتاري، الحداثة بشكل صحيح. لقد "استوعبنا وذوتنا " وحولنا الخضوع لنظام الاختلاف إلى فانتازيا من خلال صورة الأب المعَاقِب والأم المحظورة والفالوس (بوصفه الحضور النهائي) الذي لا يمكن لأحد امتلاكه ولكننا نسعى اليه جميعًا.
ما يريده دولوز وغواتاري هو تسييس هذا التفسير الأوديبي وجعله تاريخيا. كيف توصلنا لتحويل نظام الاختلاف بوصفه قانون الأب المعَاقِب إلى فانتازيانا الخاصة؟ كيف وصلنا إلى التفسير "العائلي"؟ حتى، بصورة أكثر جذرية، كيف وصلنا لتشخيص الاختلاف بوصفه نظاما مفروضا يمايز حياة كانت ستكون غير متمايزة، لا معنى لها أو أبعد من أي خبرة ممكنة، لولاه ؟
في نظريتهما عن الرغبة، يهاجم دولوز وغواتاري فكرة أن الرغبة تبدأ من النقص والفقد والأصل الذي غاب. ليست الفكرة أن هناك أصلا (متخيلا) ضاع ونحن نحاول تمثيله واسترجاعه من خلال كل كائنات /موضوعات رغباتنا اللاحقة. التحليل النفسي، يقولان، خلق قيمة الفالوس من خلال تفسيره الخاص - يجب أن يكون هناك كائنا/موضوعا متخيلا (الفالوس) الذي ننبذ لأجله الأصل الأمومي ونخضع لنظام التبادل والقانون والدلالة.
تعكس نظرية دولوز وغواتاري عن الرغبة الانتاجية العلاقة بين الرغبة والفقد. ما يجب إدراكه هنا هو النظرية البنيوية عن الاختلاف وارتباطه بالفقد والذاتية وفكرة الدال. نحن نخضع لنظام اللغة العام. والاختلاف هو نظام مفروض على "وجود" غير متمايز ولا معنى له. هذا النظام يخلقنا بوصفنا ذواتا، ويخلق عالما من الكائنات/ الموضوعات ويمكننا من التفكير في موجودات مختلفة. وبالنسبة للتحليل النفسي البنيوي، فإن خبرة اللغة بوصفها ترتيبا قانونيا هي ما ينتج أسطورة أو فانتازيا الخضوع الأوديبي: أتخيل أنه كان هناك حضورا خالصا قبيل التمايز( الفيض والوفرة الأمومية)؛ و(أنا) أتخيل أنني هجرت هذا الأصل وخضعت لهذا القانون أو النهاية( الفالوس، الاعتراف الاجتماعي، أو ما لا يمكنني ادراكه ولا يمكن أن يكون حاضرا بذاته على الإطلاق). و(أنا) مع ذلك، لا شيء خارج هذه الفانتازيا الأوديبية؛ (أنا) تأثير نظام الكلام. الذاتية هي تخيل حضور خلف دلالة ضائعة بالضرورة، مفقودة اغترابية وغائبة.
قادت النقاشات النفستحليلية البنيوية إلى طرح مسألة رئيسية: هل الاختلاف بين الجندرين يشكل باراديما لكل التصورات عن الاختلاف؟ وعندما يجيب لاكان بشكل إيجابي ويوحد النظريات اللغوية والنفستحليلية، ناسبا المعنى إلى تذويت قانون الأب، فإنه يخطو خطوة ذات مغزى للمنظرين النسويين على وجه الخصوص. وعندما يفترض لاكان خلق الآخر، الاختلاف في قلب التمايز الجنسي والمفاهيمي، فإنه يحدد مجموعة من المتطلبات الصارمة للبشر ليعملوا كذوات اجتماعية. السجل اللغوي هو الفهرس الوحيد للمعنى. وعلاوة على ذلك، ولأن الجندر هو الباراديم المعيشي لمغايرة المعنى، فإن الثمن الذي يدفعه البشر للدخول في مجال المعنى واللغة هو إخضاع جنسانيتهم لقيود أو قوانين التنظيم والتبادل ضمن مجموعة متفاضلة جنسيا.
ولكن الاختلاف الجنسي عند دولوز يتجاوز بكثير التمييز بين الرجل والمرأة. وحتى على مستوى التمثيل الثقافي يمكننا أن ننظر إلى الاختلاف الجنسي بمصطلح التكثيفات intensities. التكثيفات ليست دوالا أو كائنات خلقها التعارض المنهجي. بالنسبة لدولوز، التكثيفات هي صفات مرغوبة أو مدركة بشكل مباشر تسمح لنا بتشكيل الاختلافات المميزة لنظام. ليس، كما يقول البنيويون، مسألة وجود أو عدم وجود الفالوس، كما لو أن الاختلافات الجنسية هي نتاج التعارض في النظام الرمزي.
وبتوظفيهن لفكرة دولوز عن التكثيفات وحدتها، وجدت العديد من المنظرات النسويات البارزات أننا نستطيع أن نرى الاختلاف الجنسي بمصطلحات متعددة وايجابية: كتعبير عن الأجسام وأجزاء الجسم وليس كمعنى مفروض على الأجسام. يمكن التفكير في الطرق التي تُستثمر فيها صفات أو تكثيفات معينة.
خذ واحدة من صور الأنوثة للقرن الماضي، مارلين مونرو. نجاحها كصورة يعتمد على تكثيفات: بشرتها الشقراء وشعرها البلاتيني، شفتاها اللامعتان، منحنيات جسدها، وبحة صوتها. لم تكن مونرو شخصا أو صورة "امرأة"، ولا معنى أو دلالة، بقدر ما أنها تكثيف مستثمر بشكل مباشر. لم يكن المرغوب ما ترمز إليه أو تمثله، لكن صفات صورتها عينها. هذه هي الطريقة التي يعمل بها الحب والرغبة: من خلال الشغف بصفات تستثير عاطفة. قبل أن تعمل مونرو بوصفها دال "الأنوثة"، الذي يفترض أنه مفروض علينا جميعًا بفضل عقدة اوديب، يجب أن يكون هناك يكون استثمار في أشكال الاختلاف المكثف. وقبل أن يكون هناك دال له معنى، تعمل الرغبة عن طريق الاتصال بموضوعات جزئية: الشفاة، البياض، المنحنيات الجسدية وما شابه. البنيوية، على النقيض من ذلك، تحلل كيف يتم إنتاج الاختلاف من خلال التعارض: على سبيل المثال، نعومة مونرو وسلبيتها وغموضها يتناقض مع الشخصيات الذكورية التي تحكم الحبكة والعمل. وتميل الدراسات الثقافية في أشكالها البنيوية إلى البحث عن المعنى الاجتماعي والتعارضات. هنا، كانت مونرو، نموذج امرأة الخمسينيات؛ مثالا للجنسانية الانثوية الرقيقة والقوية معا. هذه الدوال الأنثوية يمكن أن تُفهم فقط من خلال العلاقات التفاضلية: ليونة مونرو تتناقض مع صلابة مارلون براندو أو جيمس دين. ومن هذا المنظور، ينشأ الاختلاف من خلال نظام يُنظم الاختلاف من أعلى من أجل الحفاظ على معنى - النظام في هذه الحالة قد يكون البطريركية أو الأيديولوجيا. العناصر المادية هنا (بياض البشرة والليونة في مقابل البشرة الأغمق والعدوانية) غير ذات معنى وغير سياسية بحد ذاتها ولكنها أصبحت ذات مغزى لهدف سياسي؛ اعلاء قيمة الذكورة مقابل الإنوثة.
على النقيض من ذلك، يتحدث دولوز عن سياسات الرغبة. التكثيفات قد لا تكون ذات معنى، لكنها سياسية؛ الفكرة هنا ليس ما نستهلكه في الثقافة ولكن ما نستثمره في التكثيفات. لا ينتظم المجتمع بفرض المعاني بل بإنتاج الأنماط. لذلك يتحدث دولوز عن سياسات ميكرووية "micropolitics". كيف أصبحت صفات محددة مثل البياض، والنعومة، والمنحنيات الجسدية ـــــ بوصفها علامات رغبة فردية وغير شخصية - مرمزة كعلامات على "الانوثة "؟ الأنوثة ليست بسبب أن لدينا اختلافا مفروضا، ولكن لأننا قد جردنا بعض الصفات وجعلناها دوالا. تأتي المشكلة عندما نجعل التكثيفات المرغوبة - مثل صورة مونرو – دالا على المرأة بشكل عام. هذه الطريقة التي تُرَمِز بها "الآلة الاجتماعية" الرغبة بشكل فائق. إنها تختزل الإختلاف الذي جرى تكثيفه ــــــــ الاستثمار في الصفات غير الشخصية مثل البشرة والشعر الأشقر والرقة والضعف - إلى اختلاف واسع وكاسح وممتد – الاستثمار في "المرأة" أو "الأنوثة".
يمكننا أن ننظر إلى تكرار آندي وارهول لصورة مونرو فيما يتعلق بهذا الاختزال المكثف. يأخذ فن وارهول دوال أمريكا المعاصرة - كل شيء من مارلين مونرو إلى علب حساء كامبل - ويكررها بوصفها تكثيفات. تصبح مونرو شكلا معينا من الشفاه والشعر. وتصبح علبة الحساء القصديرية صفات تصميمها؛ ألوانها وحروفها وشعارها.
يَحول تكرار الصورة بيننا وبين رؤية تفردها أو وجودها؛ نحن نُمنح الصورة والمظهر نفسه فحسب. لذلك، فإن المسألة ليست أن لدينا هويات مثل الأنوثة أو الحياة الأمريكية أولا ثم أننا ندلل عليها من خلال الصور - لا توجد "امرأة" أو "أمريكا" إلا عبر انتشار التكثيفات. تحدث الهوية مع اختزال التكثيفات إلى دال، عندما نتخيل التكثيف بوصفه صورة لشيء ما - عندما نعتقد أن حبنا لفطيرة التفاح أو الهامبرغر يدل على أمركيتنا. يتم تشكيل الهويات من الرغبات، مثل الاستثمارات في الألوان، وأجزاء الجسم، والأذواق، والأساليب. الرغبة في الأصل انتاجية وضامة ومكثفة. إنها الاستثمار في الصفات التي ليست ذكورية ولا انثوية ولكن متفردة ثم، ومن خلال التكرار والترميز، تتم قراءة هذه الصفات بوصفها دوالا لجوهر فردي يسبق ويحكم التكثيفات.
يقدم دولوز قراءة سياسية ذات طابع ميكروبولتيكي، أي ليس أيديولوجيا. نحن لا نبحث في النصوص عن الطرق التي تُفرض فيها أنظمة المعنى (المذكر مقابل المؤنث، الأبيض مقابل أسود)، بل ننظر إلى إنتاج التكثيفات الذي بموجبها وبقدر حدتها تستخلص المعاني. كيف، على سبيل المثال، احتفلت السينما بكثافة وميزة البياض؟ كيف، من أيام مارلين مونرو إلى الوقت الحاضر، اتخذنا جميع أشكال تكثيف ورفع حدة – الجسد والشكل واللون والتأثيرات العاطفية وما إلى ذلك – واختزالها في صور المرأة؟
وفقا لدولوز وغواتاري هناك تاريخ من الرغبة التي تبلغ ذروتها في اختزال الآف الأجناس الدقيقة إلى جنسين اثنين؛ ذكر / أنثى. لا تبدأ تلك الأجناس في شكل أشخاص أو في مصطلحات محددة وإنما بوصفها (موضوعات جزئية). ليس أنه لدينا علاقة قوة – اعلاء البطريركية للذكور على حساب الإناث - ومن ثم استخدام الصور لتعزيز ونقل معنى أو إيديولوجية تلك العلاقة. أولاً، هناك استثمار، لا معنى له ولكنه سياسي، في التكثيفات والتركيزات والموضوعات الجزئية (الشعر الأشقر، منحنيات الجسد، الشفاه،.. الخ). ليس فقط جسد الذكر وجسد الأنثى، وليس فقط الأشخاص، بل ملذات المجتمع كلهاــــــ ما نأكله، كيف نتحرك، ما نرتديه، السلع التي نرغب في الحصول عليها، الرغبة في التسوق ـــ كلها مرمزة سياسيا. السياسي هنا هو الرغبة في الصورة والعاطفة، وليس فيما تعنيه. بالنسبة لدولوز وغواتاري، تاريخ السياسات هو تاريخ ترميز العواطف والتكثيفات.
تختبر الثقافات البدئية التكثيفات بصورة جمعية: العاطفة المشتركة التي توحد وتدمج مجموعة أجسام. وفي حين أن التكثيفات الجمعية كانت على قيد الفعل في الحداثة، حولت الرأسمالية التكثيفات إلى تدفق رأس المال. جرى نزع الترميز عن التكثيفات؛ ليس المهم الآن ما نشعر به، ليس المهم هو أي معنى أو صورة محددة بقدر أن كل الصور قد تعرضت لفك ترميزها ودفعت في تدفقات رأس المال. لا يزال هناك استثمار مباشر في التكثيفات: صورة مونرو، عواطف الأمركة التي تتراوح من علب الحساء إلى الأعلام والأناشيد الوطنية. ولكن كل هذه الكثافات منظمة لإنتاج "تخوم/حدود" الهوية. في الرأسمالية هناك استثمار سياسي مباشر في الصور التي تدعم الترميز الاجتماعي. ما هو أكثر أهمية ليس فرض الرسائل أو المعاني بقدر إنتاج الرغبات التي تمر مباشرة إلى التنظيم الاجتماعي. ليس أن، على سبيل المثال، علبة حساء كامبل أو شعار كوكاكولا علامات لنوع من القيمة المفروضة، بحيث تشير إلى "أمريكا" أو الحداثة التي دُفعنا إلى تصديقها. نحن نرغب في الألوان، في العواطف، في قوام الصور: هذه جنسانية تمر عبر الأشخاص، ورغبة لا علاقة لها بالإيمان.   ليس للاوعي والرغبة أي مغزى ولا معتقد أيضا. الرغبة تستثمر التكثيفات. لا توجد مجموعات تفرض صور لتوصيل رسالة ما؛ الصور نفسها هي "آلة" التنظيم الاجتماعي.
الفرق بين الآلات الاجتماعية البدائية والرأسمالية هو الفرق بين الترميز وفك الترميز. الاستثمار، لنقل، في الطقوس الدينية هو استثمار في كثافة محددة تنتج وتحدد الجماعية ؛ تصبح "نحن" جسدا اجتماعيا من خلال الشعور والادراك المشترك لطقس بعينة. في الرأسمالية، على النقيض من ذلك، فإن الاستثمار في التكثيفات هو نوع من نزع الترميز، حل الشفرة، وتفكيك الرمزية. ما هو مرغوب ليس هذا الشيء المحدد أو ذاك، وليس الجسم أو العاطفة بحد ذاتها. الرغبة لا تدار أو ترمز وفقا لموضوع اجتماعي معين. تختزل الرغبة الرأسمالية في المال والسلع تكثيفات محددة إلى علامة لقيمة "بديهية". نحن نرى جميع الموضوعات الاجتماعية بوصفها ممثلا لقيمة عامة واحدة - المال - الذي يمكن أن يعمل كمترجم أو مفكك لترميز أي نظام. (لذلك يمكننا التفكير في قيمة الدين اليوم من حيث قدرته على إنتاج الأجسام الطيعة للعمل أو توظيفه الصريح كسلعة: الصناعة الدينية على التلفزيون، الاستثمارات في السياحة الدينية وغيرها).
الفكرة هي أنه، في الرأسمالية، لا يهم ما نؤمن به أو نرغب فيه طالما يمكن توجيه شكل رغبتنا في تدفق قيمة عامة؛ يجب أن نكون قادرين على رؤية كل الموضوعات المرغوبة كإشارات لكمية عامة أساسية: جميع السلع قابلة للاختزال إلى رأس المال، جميع الرغبات الجنسية قابلة للاختزال إلى "حياة" بشرية عامة. يتم قراءة أو تفسير الاستثمارات الجنسية بوصفها علامات على الرجولة أو الأنوثة؛ وأبعد من جميع أجزاء وايماءات الجوهر المنظم للإنسان. وخلف كل صور السلع التي نرغب فيها التكافؤ العام للمال. لم يعد هناك كائن/موضوع "عال/متجاوز" ينظم ويرمز الاختلاف المكثف الحاد. الرمز محايث، أو جرى فك شفرته : فقط تدفق رأس المال، فقط الجنسانية العامة والموحّدة للإنسان.
في الرأسمالية، لا يتم تنظيم الاختلاف حول موضوع متجاوز مثل الله أو الملك. يُجعل الإختلاف متجانسا من الداخل. جميع الاختلافات هي اختلافات بين تدفقين متكافئين متماثلين: المال والإنسان. أما كثافة وحدة الاختلاف فقد أُختزلت إلى مصطلحين ممتدين: الإنسان وآخره. لم يعد التجاوز(التعالي) - أو القيمة المنظمة - الآن يُفرض صراحة من أعلى لكن يظهر بوصفه "حياتنا الداخلية"؛ إنه التجاوز في المحايثة. لم نعد نخضع في الرأسمالية لأي قيم (متعالية) خاصة ؛ ويبدو كما أنه لم يعد لدينا أديان أو أيديولوجيات أو معتقدات ثقافية منظمة أو مشتركة. لكن هذه الكلبية (أو غياب الايمان) هي الخضوع الأكثر غدرا، لأنه يبدو أننا الآن نسمح ونؤكد التدفق الحر للاختلافات ـ الجنسانيات والأنماط والثقافات والقيم المختلفة ـــ الاختلافات التي ترتكز على الهوية الأساسية للإنسان الذي يختلف. أصبح الاختلاف يخضع الآن لوسيط بديهي، متجانس يكون فيه كل الاختلاف هو اختلاف في الدرجة: يمكننا أن نكون متعددي الثقافات، ولكن في أعماقنا نحن جميعا بشر. يمكننا أن نتبنى أي سياسة، لكننا في نهاية المطاف نذهب إلى العمل ونبيع كدحنا وعرق جبيننا. الرأسمالية، خلافا لغيرها من أشكال الترميز الاجتماعي، لا تحتاج إلى أن تعمل بشكل غير مباشر عن طريق بناء الموضوعات الاجتماعية التي تحكم الاختلاف؛ الرأسمالية تسيطر على الإختلاف عن طريق إدارته اقتصاديًا بشكل مباشر. من أجل إنتاج حدث داخل الرأسمالية، نحن بحاجة إلى القيام بأكثر من الإشارة إلى ظلمها، وتناقضاتها وتحيزاتها. نحن بحاجة إلى التفكير في الاختلاف بشكل مختلف. لأنه إذا لم نعد نفكر في الاختلاف بوصفه الاختلاف الثقافي أو الجنسي بين كائنات (بشرية) متشابهة فيما عدا ذلك، إذا كان بإمكاننا التفكير في الاختلاف الإيجابي والراديكالي - فسيمكننا لي عنق التفكير بعيدا عن مسار الفهم والاعتراف المشترك. قد نفكر حينئذ بشكل مختلف. هناك، لذلك، مشروع ثنائي الاتجاه في كتابة دولوز.
من ناحية، الرأسمالية هي خلاصة ميل الفكر الغربي لاختزال الصيرورة في الوجود. في الرأسمالية، كل تدفقات الرغبة، وكل تكثيفات الحياة، تصبح مرتكزة على تدفق واحد: الوسيط الكمي لرأس المال والتبادل. من ناحية أخرى، تفتح الرأسمالية أيضا إمكانيات جديدة للتفكير إذا ما وسعنا من قوتها على فك الترميز.
فإذا لم يكن هناك أي كائن أو إجراء يمكنه تنظيم تدفقات الرغبة، ثم قد يمكننا أن نحرر الرغبة (والتفكير) من أي أسس ثابتة أوبديهية. هذه الإمكانية الطوباوية لتوسيع الرأسمالية أبعد من نفسها هي التي شدد عليها مايكل هارت وانطونيو نيغري في ثلاثيتهما الشهيرة(الأمبرطوية، والجمع، والكومنويلث). وبالتالي، يصرّ دولوز على أننا لن نغير الحياة إلا إذا حولنا القدرة على التفكير، لم نعد نفكر وفقا لمنطق أو نظام معطى فعلا. لكن يمكننا فقط تحرير قوة الفكر من خلال الاهتمام بشروط الإنتاج الذي يقع أبعد من الذات المفكرة ؛ نحن بحاجة إلى الاعتراف بالحياة والرغبة التي تتدفق من خلال الفكر.

تعليقات

المشاركات الشائعة