هيغل ما بعد الحداثي.



هيغل ما بعد الحداثي.
أماني أبو رحمة.
يرى كانط أن التجريد والكلية أو الكونية، والضرورة لا تمتلك أي قاعدة مشروعة من منطلق الخبرة والتجربة، ولكن لحل هذه المعضلة  قال كانط أن التجريد (المفهوم) والكلية  لا بد أن تتم اضافتهما ذاتيا، والأمر نفسه ينطبق على الافتراضات أو المقترحات الضرورية؛ اذ لا يمكن التحقق من عموميتها وضرورتها بطريقة إمبيرية؛  لأن نتائج التجربة خاصة وطارئة ومحددة بظروفها، لذلك أيضا فإن الضرورة والتعميم لا بد أن تضاف ذاتيا. هذه الافكار بالذات كانت حاسمة لما بعد الحداثيين، فما يتم اضافته ذاتيا يتم نزعه ذاتيا أيضا.
يتفق هيغل مع كانط أن عقولنا تزودنا بالحقائق الضرورية والكلية عن الواقع، ولكنه قال إن الواقع كله هو نتاج العقل، العقل الذي يحتوي كل عقولنا في ثناياه. ولأن الواقع  يأتي منا، فبإمكاننا أن نعرف الواقع  كله في ضرورته المجيدة.
وبإمكاننا أن نعثر أيضا على كون لا يجردنا من انسانيتنا. يقول هيغل إن النموذج الواقعي والموضوعي قادنا، من خلال فصل الذات عن الموضوع،  بصورة حتمية، إلى طروحات ميكانيكية واختزالية عن النفس. واذا ما أخذنا الموضوعات اليومية من الواقع الإمبيري نماذج وفسرنا كل شيء بمصطلحاتها، فسنرد، بالضرورة، الذات الى آلة ميكانيكية. ولكن لو بدأنا من الذات وليس من الموضوع، فإن نموذجنا عن الواقع سيختلف كليا. الذات، كما نعرفها من الداخل، واعية وعضوية، واذا كانت الذات كونا مصغرا عن الكل، فإن توظيف سماتها وملامحها على الكل يولد نموذجا واعيا وعضويا، سيكون بلا شك مضيافا للقيم التقليدية مقارنة بالميول المادية والاختزالية للتنوير.
يمكن لهيغل أن يدعي أنه أكثر دفاعا عن العقل حتى من كانط. لأن عقل كانط ذي وظيفة ابداعية بصورة أساسية غير أن هذا العقل لن يعرف إلا ابداعاته ومخلوقاته الظاهرية فحسب. ولكن بالتاكيد على أن العقل يخلق كل الواقع، الواقع كله، وفر لنا هيغل استنتاجا متفائلا يبز عقل التنوير، إن العقل يمكن أن يعرف الحقيقة كلها. الواقع كله.
ولكن علينا أن ننتبه أننا الآن نتحدث عن عقل يختلف تماما عن عقل التنوير. عقل هيغل عقل خلاق من حيث المبدأ وليس عقل معرفي. لا يعرف واقعا موجودا مسبقا، ولكنه يجلب الواقع كله إلى الوجود. والأهم أن عقل هيغل يعمل بوسائل جدلية وتناقضية، وليس بالتوافق مع مبدأ أرسطو عن اللاتناقض.
كانت جدلية هيغل مدفوعة جزئيا بحقيقة أن افكار التطور كانت تحوم في سماء أوائل القرن التاسع عشر. وخلافا لاعتقاد كانط أن الفئات الذاتية للعقل كلية ولا تتغير بالضرورة، يرى هيغل أن هذه الفئات نفسها قابلة للتغيير. ولكن جدلية هيغل هي نوع خاص من التطور، تطور يتناغم مع التصور المسيحي اليهودي للكون والخلق أكثر من تناغمه مع نظرية التطور البيولوجية. فالتراث اللاهوتي المسيحي اليهودي مثقل بالتأكيدات الميتافيزيقية المعادية للعقل. وأدى الاحترام التنويري للعقل إلى انحسار الإيمان الديني بين المفكرين التنويريين. فالعقل الأرسطي لا يحتمل إلها يخلق شيئا من لا شيء، إلها هو ثلاثة وواحد معا، إلها كاملا منزها ولكنه خلق عالما يحوي الشر مع الخير. وهكذا كان شغف اللاهوتيين في التنوير هو تغيير الدين من خلال حذف الاطروحات المتناقضة من أجل جعله ملائما مع العقل. كانت استراتيجية هيغل هي قبول حقيقة أن اللاهوت حافل بالمتناقضات ـــ وكل ما علينا هو أن نغير العقل من أجل أن نجعله متوافقا مع التناقضات.
هنا قام هيغل بخطوة مهمة أبعد من كانط وأبعد من التنوير أيضا. يعتقد هيغل أن كانط اقترب من الحقيقة عندما حدثنا في (نقد العقل الخالص) عن التناقضات. كان غرض كانط أن يبين أنه ليس في متناول العقل مناقشة حقائق الواقع النومينونية (الشيء في ذاته).  وفي ما يتعلق بالتناقضات وضع كانط أربع أزواج من المتناقضات التي أعيت العقل: يمكن للمرء أن يثبت أنه لا بد أن يكون للكون بداية في الزمن، ولكن يمكن له أيضا أن يثبت أن الزمن لا بد أن يكون سرمديا. ويمكن للمرء أن يثبت أن الكون يتكون من أجزاء أبسط والعكس يمكن اثباته أيضا. واننا نمتلك ارادة حرة كما أن الجبرية حقيقة أيضا، وأنه لا بد أن يكون هناك إلها كما أنه يمكن أن لا يكون. تظهر تناقضات العقل هذه، كما يقول كانط أن العقل لا يمكن أن يعرف الحقيقة أبدا، وأن عقولنا محددة لبناء ابداعاتها ومخلوقاتها الذاتية فحسب وتغيرها وفق ما تريد.
يعتقد هيغل أن كانط أغفل شيئا مهما هنا. التناقضات ليست مشكلة بالنسبة للعقل، ولكنها مفتاح كل الكون. تناقضات العقل مشكلة فقط حين يعتقد المرء أن التناقضات المنطقية مشكلة.
ذلك هو خطأ كانط. لقد سقط في فخ المنطق الأرسطي القديم القائل باللاتناقض. ما أظهرته تناقضات كانط ليس أن العقل محدد، ولكن أننا بحاجة إلى عقل جديد أفضل. عقل يحتفي بالتناقضات ويرى الحقيقة الكلية منبثقة من القوى المتناقضة.
يتوافق مثل هذا المفهوم عن التطور التناقضي مع الرؤى اللاهوتية. فالكون بموجب هذا اللاهوت بدأ من اللاشيء ex nihilo، يفترض إلها كاملا ولكنه خلق الشر، ويعتقد بإله عادل منح الانسان حرية الحكم والاختيار ولكنه يعاقبه على اختياره، ويؤمن هذا اللآهوت بولادة المسيح من عذراء وكل معجزاته الأخرى، ويقول بأن اللامحدود يصبح محدودا، واللامادي يتحول إلى مادي، والواحد الجوهري يصبح متعددا وهكذا.
اذا ما منحنا الأولوية لتلك الميتافيزيقا، فلا بد أن ينحسر العقل. ومن ثم، لا بد لهذا العقل كي يبقى على قيد الوجود أن يُطوّع ليلائم ميتافيزيقا الخلق ؛ إذا كان لنا أن نحتفظ بكليهما.
هناك لا شيء ومنه سينشأ شيء. البدء ليس لاشيئا محضا، ولكنه لاشيء سيتقدم منه شيء. لذلك فإن الوجود، أيضا، محتوى بالفعل في البدء. البدء، إذا يحتوي كليهما. الوجود واللاشيء، إنه وحدة الوجود واللاشيء، أوهو اللاوجود الذي هو في الوقت ذاته الوجود، والوجود الذي هو في الوقت ذاته اللاوجود.
وفي حين أن هذا التناول للخلق غير متماسك من وجهة نظر العقل الأرسطي، إلا أن دراما الخلق المتناقضة هذه عقلانية تماما إذا ما فهمنا العقل بوصفه يحتوي المتناقضات في داخله، وأن التحليل يتكون من مطاردة التناقضات الضمنية في أي قضية والتضيق عليها من أجل وضع العنصرين المتناقضين في حالة توتر صريح وواضح مع بعضهما البعض، الأمر الذي سينتهي بانحلال بحيث يرتقي العنصران المتناقضان أبعد من التناقض إلى مرحلة تطورية أخرى، في حين يحتفظان، في الوقت نفسه، بالتناقض الأصلي أيا كان معناه.
يرفض هيغل بوضوح قانون عدم التناقض الأرسطي، كل شيئ عند هيغل يعتمد بشكل مطلق على هوية الهوية واللاهوية.
يختلف العقل الجدلي الهيغلي عن عقل التنوير أيضا بسبب تضمينه لنسبية قوية مقابل الكلية التنويرية. لأن حديث هيغل عن المنظور الكلي الأقصى للمطلق، يعني ضمنا أنه من أي منظور آخر لاشيء سيصمد طويلا. حقنت جدلية هيغل التناقض في الواقع في أي زمن محدد كما عبر العصور والحقب. فإذا كان كل شيء ينبثق من صراع المتناقضات، فإن ما هو صحيح ميتافيزيقا وابستمولوجيا في حقبة ما سيواجه ما يعتبر صحيحا في الحقبة التالية وهكذا دواليك.
واخيرا يختلف العقل الهيغلي عن العقل التنويري ليس فقط في كونه خالقا للحقيقة والواقع ومحتفيا بالتناقضات ولكن أيضا بكونه جماعيا من الناحية الجوهرية مقابل العقل الفردي التنويري.
هنا يذهب هيغل أبعد من كانط في رفض التنوير. ففي حين احتفظ كانط ببعض عناصر الاستقلالية الفردية. رفض هيغل تلك العناصر. فكما أن اللاهوت المسيحي اليهودي يرى كل شيء بوصفه تنفيذ ارادة الله وخطته للعالم فينا ومن حولنا ومن خلالنا، يرى هيغل أن العقول الفردية والوجود الكلي تعمل وفق قوى كونية كلية أوغل، تشتغل عليها ومن خلالها.
تشكل الثقافة الأفراد وللثقافة حياتها التطورية بحد ذاتها وهذه الثقافات أيضا هي معاملات قوى كونية اوغل. والفرد ليس إلا جانبا ضئيلا منبثقا من كل أكبر. الذات الجماعية تشكل نفسها ويحدث خلق الحقيقة والواقع على مستوى لا يقيم للفرد وزنا. الفرد ليس إلا مطية عند هيغل.
وهكذا يمكننا تلخيص مساهمات هيغل في ما بعد الحداثة كما يلي:
1-  الواقع ليس إلا خلقا ذاتيا
2-   التناقض أساسي في العقل والواقع
3-  ولأن الواقع ينشأ جدليا، فإن الحقيقة نسبية زمانيا ومكانيا.
4-  وأخيرا، فإن الجماعي وليس الفردي هو الوحدة الفاعلة.
كان لهيغل تأثير قوي على الميتافيزيقين اللاحقين الذين خاضوا ناقشات حامية حول قضايا متافيزيقية ثانوية رسخ أسسها هيغل. هل أن صراع الاضداد تقدمي كما يعتقد هيغل أو أنه غض الطرف عمدا عن اعتقاد  معاصره شوبنهاور أن الواقع ليس إلا فوضى لاعقلانية كلية؟ وهل أن الأساس الانطولوجي للصراع والتناقض مثالي كما يرى هيغل أو أنه مادي كما قال ماركس ؟ وهل أن السيرورة جماعية بصورة كلية وفق ما رسمها هيغل أم ان هناك عناصر فردية ضمن الاطار الجماعي الكلي كما يرى نيتشه؟
وأيا كانت الاختلافات فقد هيمنت الثيمات الميتافيزيقية عن صراع الاضداد ونسبية الحقيقة ومحدودية العقل وبنائيته ثم الجماعية  على الفكر الغربي في القرن العشرين، ومع كل خلافات ما بعد الحداثيين مع هيغل إلا أنهم اعتمدوا الثيمات الهيغلية الأربع أعلاه.

تعليقات

المشاركات الشائعة