ما بعد الحداثة.


أماني أبو رحمة



قامت ما بعد الحداثة على نوع من التسوية بين هايدغر ونيتشه. فالمشترك بين الرجلين من الناحية الابستمولوجية هو نبذ العقل التنويري. وهو ما تبنته ما بعد الحداثة جملة وتفصيلا. أما من الناحية الميتافيزيقية ، فعلى الرغم من أن ما بعد الحداثة قد تخلصت من بقايا وآثار السعي الهايدغري خلف الوجود، ووضعت نضالات القوة(السلطة) النيتشوية في قلب وجودنا، وخصوصا في حالة فوكو ودريدا ، إلا أن معظم ما بعد الحداثيين هجروا الفكرة النيتشوية عن القدرة الخارقة للإنسان واحتفوا بالمقابل باللا_إنسانوية الهايدغرية.

تقع الميتافيزيقا والابستمولوجيا في بؤرة الطرح ما بعد الحداثي، دع جانبا أن معظم ما بعد الحداثيين يعتبرون أنفسهم ضد الميتافيزيقا وضد الابستمولوجيا، فكتاباتهم لا تركز إلا على هذه الثيمات وبصورة حصرية تقريبا.

هاجم هايدغر المنطق والعقل ليفسح مكانا للعواطف، واختزل فوكو المعرفة إلى تعبيرات عن السلطة المجتمعية، وفكك دريدا اللغة وحولها الى مسرح للعب الجمالي، ورصد رورتي خسارات التقاليد الموضوعية والعقلانية بمصطلحات ميتافيزيقية وابستمولوجية خالصة.
وانطلاقا من هذه الميتافيزيقا اللاواقعية والابستمولوجيا اللاعقلانية ظهرت الآثار والعواقب الاجتماعية تباعا وبصورة مباشرة. فإذا ما وضعنا العقل والحقيقة جانبا ، فما الذي سيتبقى لنا لنستمر؟
يمكننا كما فعل المحافظون أن نعود الى تقاليد الجماعة ونتبعها، أو أن نفعل مثل ما بعد الحداثيين ؛ نركن إلى المشاعر ونسير خلفها . وإذا سألنا ماهي كتلة المشاعر التي ستسعفنا في طريق الحياة الشاق والطويل؟ عندها لن تخذلنا نظريات (الطبيعة الانسانية) من القرنين التاسع عشر والعشرين ؛ من هايدغر وكيركيغارد سنأخذ الفزع والشعور بالذنب، ومن ماركس سنستلف مشاعر الاغتراب الدائم والمظلومية العميقة والغضب العارم ، ومن نيتشه سنستشعر احتياجنا العميق للقوة ، أما فرويد فسيكشف لنا عن الجنسانية السوداء العنيفة في دواخلنا . الغضب والقوة والشعور بالذنب والشهوة والفزع كلها تشكل معا مخزون عالم ما بعد الحداثة العاطفي، فلا عقل ولا حقيقة ولا معرفة موضوعية ولا منطق ولا رياضيات ولا ما يحزنون.

انقسم ما بعد الحداثيين حول ما إذا كانت العواطف والأحاسيس محددة بيولوجيا أو اجتماعيا، مع ترجيح مميز للنسخة الإجتماعية من الخيارين. في كلتا الحالتين، فالمشترك هو أن الأفراد لا يسيطرون البته على مشاعرهم : هوياتهم ليست إلا نتاج عضويتهم في مجموعة ما: سياسية أو اقتصادية أو عرقية أو حتى جنسية. ولأن شكل وتكوين الخبرات الاقتصادية والجنسية والعرقية أو تطورها يختلف من مجموعة إلى مجموعة، فإن المجموعات المختلفة لن تمتلك اطارا تجريبيا مشتركا. وبدون معيار موضوعي يمكن من خلاله الوصول إلى عامل مشترك بين المنظورات والمشاعر المختلفة، وبدون الاحتكام إلى العقل، فإن النتيجة هي الصراعات والانشقاقات وتعدد الخلافات إلى ما لا نهاية.

الكياسة السياسية أو الإجتماعية المقرفة والمنافقة ستحل محل التعبير عن المشاعر الحقيقية. ولأننا قد نبذنا العقل فلن نتوقع من أنفسنا أو من الآخرين أن يتصرفوا بعقلانية، ولأننا وضعنا شغفنا ومشاعرنا في الواجهة فإننا سنتصرف وسنتجاوب مع تصرفات الاخرين بفظاظة ولن نعبأ إلا بلذة اللحظة، هنا والآن. ولأننا فقدنا احساسنا بأنفسنا كأفراد فاعلين فسنسعى خلف الجماعة لتحقيق هوايتنا، ولأن جماعتنا لا تشترك بالكثير مع الجماعات الأخرى فسننظر إلى تلك الجماعات بوصفهم اعداء.

ولأننا تخلينا عن مساقات المعايير العقلانية والمحايدة، فإن المنافسة العنيفة ستكون بلا شك ممارسة مقبولة، ولأن حل النزاعات سلميا لم يعد موضع احتفاء أو دليل على رجاحة العقل مثلا، فالتعقل لن يعني سوى أن الأقسى والأفظع هو من يستحق الحياة.

يمكن تحديد تجاوب ما بعد الحداثين مع الوحشية الكامنة في قلب المجتمع ما بعد الحداثي في ثلاث توجهات عريضة استنادا الى ما إذا كنا سنمنح الأولية لفكر فوكو أو دريدا أو رورتي.

ففوكو الذي يعود إلى نيتشه يقترب من اختزال المعرفة إلى تعبيرات عن السلطة المجتمعية، ويحثنا بالتالي على أن نلعب لعبة سياسات السلطة المتوحشة ـ على الرغم من أنه يخالف نيتشه حين يشجعنا على لعبها لصالح اولئك المهمشين تقليديا.

دريدا الذي يعود إلى هايدغر مقتبسا ومنقحا، يفكك اللغة ويتكئ عليها بوصفها مسرحا للعب الجمالي وبذلك فقد عزل نفسا من التورط في الاشتباكات والمشاجرات الاجتماعية والسياسية (تحول عن ذلك قليلا في سنواته الأخيرة وحاول أن يطوع تنظيراته للممارسة السياسية والاجتماعية).

أما رورتي فيأمل، بعد ان أنكر الموضوعية ، أننا قد نتمكن من الوصول الى اتفاق (ذاتوي بيني) بين اعضاء (قبيلتنا) أي المجموعة التي اخترنا الانضمام لها. ولأنه يشعر بالولاء لجذورة الليبرالية اليسارية الأمريكية، فإنه يتوقع منا أن نتلطف ونحن نفعل ذلك.

الخيارات ما بعد الحداثية ، باختصار، هي إما أن ننهمك في المشاجرات، أو أن ننسحب ونعزل أنفسنا عنها، أو أن نحاول تحسين فوائضها.

ما بعد الحداثة على هذه الصورة هي تتويج التيارات التي أصابت التنوير في مقتل والتي دشنتها الابستمولوجيا الكانطية وانتهت إلى صورة ما بعد الحداثة.

ادعت ما بعد الحداثة أنها حافظت على مساحة للاختلاف، للآخر. ولكن ، في الواقع، كما يدعي نقادها، ليس دون أيديولوجية مهيمنة، أو نوع من الإكراه الخفي، على الرغم من موقفها التقي الورع تجاه المهمشين والمستبعدين وانحيازها لمصالحهم. فالتأكيد على سيادة الطارئ على الضروري، والمحسوس على المجرد، والخاص على العام، والتخلي عن المزاعم الشمولية للنظرية، ليس موقفا أيديولوجية بريئا : ذلك أنه يجر وراءه حملا ثقيلا وغير أخلاقي في مسارب ودروب تاريخ التجربة الغربية، تاريخ يكاد لا يضمن موقفا واحدا مستثنى من علاقات الهيمنة السلطوية يؤيد هذا الادعاء. فالبراغماتية صعبة المراس ظاهريا التي تؤكد أن المادي المحسوس فقط هو الحقيقي ، تقيد نفسها أيضا بواقع هنا والآن: شجاعة أن تغمر نفسك في حالة طارئية وعشوائية التاريخ دون قوانين تنزلق بسهولة إلى قبول – بسخرية أحيانا ، أو بالرضا أحيانا أخرى ــ التاريخ الذي يقرره لك او يفرضه عليك الآخرون. وإذا كانت المعارضة للهيمنة تقتصر على جيوب المقاومة كما قد يُفهم من تنظيرات فوكو عن السلطة (مقابل فكرة المقاومة الشاملة ضد الهيمنة الشمولية)، فمن السهل محاصرة تلك الجيوب. وفي حين أن رفض السيطرة يبدو وكأنه لفتة نبيلة بما فيه الكفاية، فإنه يصطدم بإلزام معين غير نبيل، إن لم يكن انتهازية سياسية. إذ قد يرغب المنظرون الأكاديميون الذين يشغلون مناصب آمنة ونخبوية نسبيا في أن ينفصلوا عن الكليات أو الشموليات الزائفة وهي المهمة التي يجب على الأكاديمية بشكل عام القيام بها. ولكن المشكوك فيه هو ما إذا كانت أي مجموعة اجتماعية تكافح من أجل التحرر من التبعية أو الاستغلال، ستتمكن من التمييز بسهولة بين "الخطاب السائد " الذي يعقلن الظلم ويبرره وذلك الذي يمكن من التحرر.




تعليقات

المشاركات الشائعة