فوكو: الأخلاقيات وتكنولوجيا الذات.
فوكو: الأخلاقيات وتكنولوجيا الذات.
أماني أبورحمة
يمثل تناول فوكو لأخلاقيات وتكنولوجيا الذات التحول الثالث الرئيسي في مسيرته البحثية، من التركيز الأركيولوجي على نظم
المعرفة في الستينيات، مرورا بالتركيز الجينيالوجي على طرائق السلطة في
السبعينيات، ثم التركيز على تقنيات النفس والأخلاق والحرية في الثمانينيات. وإذا
قارنا أعمال فوكو الأولى والوسيطة مع أعماله الأخيرة نجد أن هناك استمرارية
وانقطاعات دراماتيكية. تتعلق الاستمرارية بتمديد التحقيقات الأركيولوجية
والجينيالوجية إلى حقل الدراسة الجديد الذي يسعى إلى بدايات الهيرمينيوطيقا
الحداثية للرغبة ـــ البحث عن الحقيقة العميقة لوجود المرء في جنسانيته ــ في
الثقافة الاغريقية والرومانية والمسيحية؛ أما الانقطاعات فتتعلق بتركيزه على الذات
المكونة ذاتيا وإعادة تناوله للعقلانية والاستقلالية. اهتم فوكو طوال سنوات عمله بمَشكلة
المجالات الأساسية للخبرة في الثقافة الغربية مثل: الجنون والمرض والانحراف
والجنسانية. فقد أوضح كيف تتكون الذاتية في خطابات وممارسات واسعة النطاق ضمن حقل
السلطة والمعرفة والحقيقة. وقد تمثل مشروعه في تطوير نقد متعدد المنظورات للحداثة
ومؤسساتها وخطاباتها وممارساتها وأشكال الذاتية. ولكن فوكو، في كتبه ومقالاته ومقابلاته
منذ الثمانينيات، ترك ساحات الحداثة كي يدرس ثقافات ما قبل الحداثة الإغريقية
والرومانية والمسيحية.
قادت محاولة فوكو التنظير لكيف ومتى بدأ الأفراد
السعي خلف حقيقة وجودهم بوصفهم ذواتا من الرغبة من خلال هيرمينوطيقا الذات، إلى
تحليل بدايات العملية في الثقافات المسيحية المبكرة والانقاطاعات والاستمراريات
بين المسيحية وأخلاقيات عصور الحداثة. وفي محاولة لموضعة بدايات تشكيل الذات
بوصفها ذات الرغبة، تتبع فوكو خيوط الأخلاق المسيحية عودة إلى اليونانية والرومانية.
في المجلدين الثاني والثالث من مشروع(تاريخ الجنسانية): (استخدام المتعة) و(رعاية
بالذات) حلل فوكو التشابهات والاختلافات بين الأخلاقيات الرومانية واليونانية والاستمرارية
والانقطاعات بين الاخلاقيات الرومانية اليونانية من جهة والمسيحية من جهة اخرى.
يرى فوكو أن هناك انقطاعات في الثقافة الغربية من حيث مَشْكلة الرغبة بوصفها قوة
فاعلة تحتاج إلى أن تضبط أخلاقيا، أما منشأُ الاختلافات فهو الصيغ المختلفة للضبط
والتأديب. لم يكن التحول الجذري في أعمال فوكو المتاخرة متعلقا بالتغييرات
الزمانية في حقول دراسته، أو بأسلوبه الكتابي الذي أصبح تفسيريا على نحو ملحوظ، ولكن
بتركيزه على مشروعه الجديد(تاريخ الجنسانية) واعادة تقييم كل مواقفه السابقة.
يتعلق التحول الأهم في أعمال فوكو الأخيرة باعادة تقييم عصر النهضة من حيث
مساهماته الايجابية في نقد الحاضر وتحديد عمله مع مسار النظرية النقدية من كانط
إلى نيتشه وصولا إلى مدرسة فرانكفورت. يتضمن الفرق الرئيسي الثاني تحولا إلى اشكاليات
الذات الابداعية الأمر الذي رفضه سابقا بوصفه وهما إنسانيا، جنبا إلى جنب مع توظيف
مفردات التحرر والحرية والاستقلالية، التي تحاشاها منظر(موت الإنسان) من قبل.
ومع أن
اهتمام فوكو كان ولا يزال تاريخ المعرفة والسلطة والذاتية، إلا أنه الآن يركز على
علاقة المعرفة التي تملكها الذات مع نفسها. حدثت هذه التغييرات عندما انتقل فوكو
من التركيز على تكنولوجيات الهيمنة، حيث تخضع الذوات وتشيئ من قبل الآخرين
من خلال الخطابات والممارسات، إلى تقنيات الذات، حيث يخلق الأفراد الهويات
الخاصة بهم من خلال الأخلاق وأشكال التكوين الذاتي. يشرح فوكو دوافعه في ما يشبه
النقد الذاتي فيقول:" اذا أراد المرء أن يحلل جينيالوجيا الذات في الحضارة
الغربية، فلا بد أن يأخذ في الاعتبار ليس تقنيات الهيمنة، ولكن أيضا تكنولوجيات
الذات. لا بد للمرء أن يظهر التفاعل بين نوعي الذات. عندما كنت أدرس الملاجئ
والسجن و غيرها، كنت ربما أصر كثيرا على تقنيات الهيمنة......وأود في السنوات
القادمة، أن أدرس علاقات السلطة من تقنيات الذات".
يحدد
فوكو تقنيات الذات بوصفها الممارسات "التي تسمح للأفراد بتطبيق، بوسائلهم
الخاصة أو بمساعدة الآخرين، عدد معين من العمليات على أجسامهم وأرواحهم وأفكارهم
وسلوكهم وطريقة وجودهم، وذلك لتحويل أنفسهم من أجل بلوغ حالة معينة من السعادة
والنقاء والحكمة والكمال، أو الخلود ". ونظرا لهذا التركيز الجديد، لم تعد
الذاتية تتميز فقط بوصفها بناء مجسدا للسلطة؛ فقد رُفضت النظرة الحتمية لهذه الذات
تماما. أفسحت التفسيرات الوظيفية واللاشخصية المجال لدراسة كيف يمكن للأفراد تحويل
ذواتهم من خلال تقنيات الذات. لم يعد يُنظر إلى الانضباط، في صيغة تلك التقنيات،
بوصفه أداة للهيمنة فقط. وعلاوة على ذلك، فقد برزت قضايا تهتم بحرية واستقلالية
الأفراد بوصفها اهتمامات مركزية. كانت هذه التغييرات في توجهات فوكو نتيجة لدراسته
للثقافات الاغريقية والرومانية حيث وفرت تقنيات الذات، التي يمارسها الذكور
الأحرار( أُقصيت النساء والعبيد من المجال الأخلاقي) صيغا لممارسة الحرية. في
(استخدام المتعة) و(رعاية بالذات) يحلل فوكو كيف مَشكل المواطنون الرومان والإغريق
الرغبة بوصفها مساحة قلق أخلاقي مكثف وحددوا المجالات الرئيسية للخبرة( الغذاء
والعلاقات العائلية والجنسانية) بوصفها مساحات تتطلب التوسط والاعتدال وضبط النفس.
ارتبطت الأخلاقيات، بالنسبة للإغريق على وجه الخصوص، بجماليات الوجود حيث كان من
المثير للاعجاب تحويل الحياة إلى عمل فني من خلال السيطرة على النفس والسلوكيات
الأخلاقية. في (استخدام المتعة)، يكشف فوكو أن التفسير الشائع عن الثقافة
الإغريقية بوصفها متحررة بالكامل في توجهاتها حول الرغبة ليس دقيقا ليظهر أن
الاغريق نظروا إلى الرغبة كقوة غاشمة وتدميرية لا بد من تنظيمها وضبطها. ويخلص إلى
أن ممارسات الزهد وتشكيل الذات بالمعرفة بدأت ليس مع المسيحية وإنما أقدم بكثير. في
(رعاية الذات)، يصف فوكو كيف أن مشكلة المتعة في المجتمع الروماني تأخذ أساسا
الشكل ذاته في المجتمع اليوناني، مع فارق أن هناك تركيز أقل على جماليات الوجود،
وتركيز أكبر على الزواج والغيرية الجنسية وتصاعد في الزهد في شكل "رعاية
الذات" وقدر أكبر من الميل إلى وضع الأخلاق ومعرفة الذات ضمن خطاب الحقيقة.
وهكذا فإن الأخلاقيات الرومانية أوضح في اتصالها واستمراريتها مع الأخلاقيات اليونانية
مقارنة بالمسيحية. فالثقافة المسيحية تشكل انقطاعا أصيلا ضمن المجتمعات الغربية
وهي مستمرة في الثقافة الحديثة أكثر بكثير من اتصالها بالثقافة الرومانية
الإغريقية. وخلافا للأخلاقيات المسيحية، فإن الأخلاقيات الرومانية اليونانية لم
تهدف إلى الامتناع عن ممارسة الجنس بحد ذاته، ولكن إلى الاعتدال وضبط النفس ؛ لم
تكن القضية قضية وصم أو حظر الرغبة والمتعة، ولكن استعمالها استعمالا ملائما.
وفي
حين رأى الرومان أن الرغبة شرا محتملا بالنظر إلى آثارها، رأت المسيحية أنها شرا
مطلقا بطبيعتها. أخذت رعاية الذات في الثقافة المسيحية شكل الرفض وازدراء الذات.
وعلاوة على ذلك، ففي حين كانت الاشكاليات الأخلاقية في الثقافة الرومانية
اليونانية مسئولية كل فرد يرغب في اضفاء مسحة من الجمال والرقة والاسلوب على
وجوده، وظفت الثقافة المسيحية اعتراضات أخلاقية كونية وشفرات أخلاقية صارمة. وانطلاقا
من الثقافة المسيحية تحولت رعاية الذات من الأُسس الجمالية أو الأخلاقية إلى
هيرمنيوطيقا الرغبة حيث يسعى الأفراد خلف الحقيقة العميقة لوجودهم في جنسانيتهم، الخطوة
التي مهدت الطريق للحداثة ومؤسساتها التطبيعية. وهكذا، وعلى الرغم من أن الحداثة
العلمانية جعلت العلم أساس المعرفة والقيم
بدلا من الدين، إلا أن هناك استمراريات أساسية من حيث البحث الهيرمنيوطيقي عن
الحقيقة العميقة للذات والنظرة الجوهرية للنفس التي يدور حولها هذا المشروع. الاخلاقيات،
في قراءة فوكو للثقافتين الرومانية واليونانية، هي علاقة الفرد مع ذاته. لا يعني
ذلك أنه لا يوجد مركب اجتماعي للأخلاق، لأن الضبط ورعاية الذات منصوص عليها في العلاقات
الاجتماعية والتربوية وتهدف إلى تطوير ذات تضبط علاقتها بنفسها بالآخرين. وفي حين تركز
الأخلاقيات الأُخرى مثل الكانطية، على سبيل المثال، على واجبات ومسئوليات الذات
بالنسبة للآخرين، تهتم الصيغة الرومانية اليونانية بحرية الأفراد ( ليس بوصفها
الارادة الحرة أو عكس الحتمية وانما من حيث علاقتها بضبط المرء لرغباته) وتعتبر
أنها جوهرية لمصلحة المدينة والدولة ككل، كما أن الفرد الذي يستطيع أن يحكم نفسه
سيمكنه بالتالي حكم الآخرين.
الأخلاق
في هذا النموذج، هي المكون التداولي للنشاط الحر وأساس لممارسة طويلة، حيث يسعى
المرء إلى مَشكلة وضبط رغباته وتشكيل نفسه باعتباره نفسا حرة. في حين أن فوكو لا
يؤكد الثقافة اليونانية دون تمحيص، ويعرب عن نفوره من المجتمع الهرمي والسلطة
الأبوية فيها، فإن الافتراض المعياري غير المعلن هو أن الممارسة الأخلاقية
اليونانية الرومانية متفوقة على المسيحية والنظم الأخلاقية الحداثية. نادرا ما
يعبر فوكو عن تفضيلاته الأخلاقية والسياسية. وفي الحقيقة فإن النقد الموجه لأعماله
يتركز في معظمه حول فشله في تحديد والدفاع عن الافتراضات المعيارية المتضمنة في
تحليلاته السياسة، وبالتالي فإنه لا يوفر الأساس النظري لانتقاداته القوية
للهيمنة.
ومع
ذلك، يبدو أن فوكو يشير إلى أن الثقافات اليونانية والرومانية تقدم للأفراد
المعاصرين عناصر نموذجا يمكن من خلاله التغلب على الأشكال الحداثية من الذاتية
وخلق أشكال جديدة من الحياة التي تقطع مع مؤسسات التطبيع القسري للحداثة. ويبدو أن
فوكو يحتفي بإعادة اختراع الذات ككيان مستقل يحكم نفسه ويتمتع بأشكال جديدة من
خبرة المتعة والرغبة في أشكال منمقة. وفي لحظة نادرة من الإعلان المعياري الذي
طالما تحاشاه سابقاً، أعلن فوكو أن "علينا أن نشجع أشكالا جديدة من الذاتية
من خلال رفض ذلك النوع من الفردية [المقيسة/المطبعة ] التي فرضت علينا على مدى
قرون". لكن فوكو يصر على أن الإغريق لا يقدمون "بديلا" للمجتمع
المعاصر، ولكن فقط مثالا على الأخلاق غير المقيسة التي يجب على الثقافات الحداثية
أن تطورها بنفسها. يقول:
"
لا تعني محاولة إعادة النظر في الإغريق اليوم تثبيت الأخلاق اليونانية كمجال حصري
للأخلاق التي يحتاجها المرء للتأمل الذاتي. ولكن الهدف من ذلك هو أن نرى أن التفكير
الأوروبي يمكن أن يأخذ الفكر اليوناني مرة أخرى كتجربة وقعت ذات مرة، والتي يمكن
أن يكون المرء بالنسبة لها حرا تماما"؛ متحرر من النوستالجيا للعالم المفقود
أو من اعادة انتاج النموذج المعياري القديم. لذلك يبدو أن الأهمية الجينيالوجية
للتحقيق التاريخي الفوكووي في الأخلاقيات تثمن نوعا من الممارسة الأخلاقية ليست
كونية ولا تطبيعية مقيسة، مع الانتباه إلى الفروق الفردية، والتأكيد على الحرية
الفردية والسياق الإجتماعي الأكبر لحرية الذات. يقول فوكو: "المفقود في
العصور القديمة الكلاسيكية هو إشكالية تكوين النفس كذات... وبسبب هذا، تفرض بعض
الأسئلة نفسها علينا بنفس المصطلحات التي كانت تطرح في العصور القديمة. يبدو لي أن
البحث عن الأنماط المختلفة عن بعضها البعض قدر الإمكان يشكل إحدى النقاط التي
افتحت بها مجموعات معينة في الماضي عمليات البحث التي نشارك فيها اليوم".
لا
تعتمد الأخلاقيات هنا كثيرا على المعايير الأخلاقية مثل معايير الاختيار الحر والجماليات
وتتجنب تشكيل الذات بوصفها ذاتا أخلاقية كونية مطبعة. والمهمة ليست
"اكتشاف" النفس وكينونتها الداخلية السرية، وإنما الإنتاج المستمر للذات.
وهدف الجينيالوجيا هنا، مثلما كان من قبل، المساعدة في نزع الشرعية عن الحاضر من
خلال استعادة الماضي المختلف جذريا. ولكن فوكو الذي سعى في وقت سابق إلى تحقيق
واثبات الجماعات المهمشة والمستبعدة، يقوم هنا بتحليل المبادئ الأخلاقية للطبقات
الحاكمة، ليصل إلى أن هناك، بين النخبة المتميزة في العصور القديمة، طريقة للحياة
وشكل من الأخلاقيات تختلف جذريا عما يجده الإنسان في عصور الحداثة، وهذا يقدم وجهة
نظر نقدية مفيدة للحداثة.
يحدد
فوكو الآن مهمة الجينيالوجيا بوصفها محاولة لخلق مساحة للحرية حيث يمكن "
تكوين ذواتنات بوصفها ذوات مستقلة". وما زال فوكو يرفض نماذج التحرر الأساسية
التي تفترض أن الذات هي جوهر داخلي ينتظر التحرر من القمع أو الاغتراب. فهو يقابل
التحرر liberation بالحرية liberty، ويحدد الأخيرة كممارسة
أخلاقية مستمرة من التحكم بالذات ورعاية الذات. ويرى أن الحرية هي "الشرط
الأنطولوجي للأخلاق" والأخلاق "الشكل المتعمد الذي تفرضه الحرية".
وبالمثل، فإن عودة "الذات " في فوكو ليست عودة إلى ما قبل المفهوم
الاركيولوجي - أي الإنسانوي أو الظاهري - للذات التي وهبت جوهرا داخليا أو إرادة
أصلية تسبق وتقف خارج المجتمع. فالذات لا تزال تتكون خطابيا واجتماعيا، ولازالت
تتموضع ضمن علاقات القوة ؛ ولكن الفرق هو أنه الآن يرى أن الأفراد يمتلكون سلطة
تحدد هويتهم الخاصة، وتمكنهم من السيطرة على أجسادهم ورغباتهم، ويمارسون الحرية من
خلال تقنيات الذات. ما يقترحه فوكو الآن هو جدلية بين الفاعل النشط المبدع والحقل الاجتماعي
المقيد حيث تتحقق الحرية بقدر ما يمكن للمرء أن يتجاوز الحدود المفروضة اجتماعيا
وأن يصل الى درجة التحكم الذاتي والوجود المنمق. يقول فوكو: "إذا كنت الآن
مهتما... بالطريقة التي تشكل بها الذات نفسها بطريقة نشطة، من خلال ممارسات الذات،
فإن هذه الممارسات، مع ذلك، ليست شيئا يبتكره الفرد بنفسه. إنها نماذج يجدها في
ثقافته والتي تعرضها وتقترحها وتفرضها عليه ثقافته ومجتمعه وجماعته
الاجتماعية".
وعلى
الرغم من أننا لاحظنا أن فوكو كان يفضل المواضيع السياسية المرتبطة بالسلطة في
أعماله المبكرة، إلا أنه يهتم في أعماله المتأخرة كما يقول " بالأخلاقيات
أكثر بكثير من السياسات أو لنقل، بالسياسات بوصفها أخلاقيات".
هذا لا يعني أن فوكو هجر مفاهيمه ومناهجه
الماضية، لأن المحاور الثلاثة لدراساته تتداخل في أعماله الأخيرة عن تقنيات الذات:
فأركيولوجيا الاشكاليات تتقاطع مع جينيالوجيا الممارسات الاخلاقية للذات. ولا يعني
أيضا أن الانعطافة التحليلية نحو تقنيات الذات تمثل نبذا لمواقفه السياسية
السابقة، لأن اخلاقيات فوكو تقترح نضال الأفراد ضد القوى التي تهيمن وتخضع وتشكل
الذوات. ولكن تحليل السلطة في هذه المرحلة من أعمال فوكو يتحور تحويرا مهما.
ففوكو
لا يزال يعتقد أن جميع العلاقات الاجتماعية تتميز بالسلطة والمقاومة، ولكنه يميز
هنا بين السلطة والهيمنة، حيث يرى الهيمنة بوصفها ترسيخ علاقات السلطة بحيث تصبح
جامدة وثابتة نسبيا في نماذج وفورمات غير متناظرة وبالتالي أصبحت مساحات الحرية
والمقاومة محدودة. في وقت لاحق، يركز فوكو على تكنولوجيات الذات بحيث يزيح التركيز
المسبق على السلطة والهيمنة عن بؤرة تحليلاته. ومع ذلك، من الخطأ الاعتقاد أن
الهيمنة قد اختفت تماما في هذه المرحلة من فوكو. فأولا، يجد المرء تركيزا على
اكتساب السلطة والهيمنة على الذات، وفي قمع والتحكم برغبات المرء وجسده في علاقات ذاتية
من الهيمنة والاخضاع و الأوامر والطاعة. هنا يتم تجاوز المواجهة بين السلطة
واستقلالية الذات من خلال التحكم ب/ والسلطة على الذات.
ثانيا،
في تأريخه للأخلاق، أبرز فوكو هيمنة الرجال على النساء. ويؤكد فوكو باستمرار على أن
مشروع التحكم بالذات الروماني كان قسرا على الرجال بشكل صارم وأقصى النساء، أو حدث
وأُدرجن في هذا المشروع فمن باب أن يكن خادمات أفضل للرجال، على الرغم من أن
المرأة في الثقافة الرومانية اكتسبت قدرا أكبر من المساواة مع تزايد أهمية مؤسسة
الزواج. وهكذا، في حين أن النقد النسوي لفوكو يشير بحق إلى أن عمله المبكر
والمتوسط فشل في مواجهة السلطة في شكل هيمنة الذكور، فإن أعماله في وقت لاحق حول
الأخلاق تناقش إلى حد ما الاختلافات بين الجنسين وهيمنة الذكور.
وعلاوة
على ذلك، نجد أن بعض النقاد يضخمون الجماليات النيتشوية في عمل فوكو، بسبب أن مفاهيم
مثل جماليات الوجود ورعاية الذات تنطوي على شكل من أشكال الممارسة الانعكاسية،
والعادات المكتسبة، والقدرات المعرفية. كما يؤكد فوكو في أعماله اللاحقة، فإن
التصميم الجمالي وممارسة الحرية التي تنطوي عليها تقنيات النفس قد تكون مستحيلة
بدون معرفة ذاتية وضبط عقلاني للنفس.
وفي
حين أن فوكو يفضل أحيانا العنصر الجمالي على المعرفي في تكوين الذات، إلا أننا نجد
تحولا في فوكو الأخير بعيدا عن التأكيد على خلق الذات بوصفها عملا فنيا ونحو
العناية بالذات حيث يتحرك أقرب إلى بعض مواقف التنوير التي وصفها في وقت سابق تحت
عنوان الإكراه الاجتماعي. في الواقع، يبدو فوكو المتأخر أحيانا كانطيا تقريبا في
احتضانه "للموقف التاريخي النقدي " التنويري وخطاب الاستقلال الذاتي، وفي
اهتمامه بمسألة "ما نحن اليوم؟"، وفي تركيزه على تشكيل الذات كمفكر
وفاعل أخلاقي، وفي تصوره للفلسفة كمشروع نقد.
ومع
ذلك، هناك العديد من الجوانب الكامنة في كتابات فوكو اللاحقة. فحين إشار فوكو في
أماكن أن أخلاق التحكم بالذات ورعاية الذات ذات بعد اجتماعي ينطوي على كيف أن حكم
الذات يتكامل مع حكم الآخرين، إلا أنه لم يفعل شيئا يذكر لتحقيق ذلك. وبالتالي ليس
لديه أي أخلاقيات اجتماعية أو نظرية للبينذاتية - وهي مشكلة ملحوظة عند منظري ما
بعد الحداثة الآخرين. لذلك نجد انعطافة فردية في أعمال فوكو اللاحقة حيث طمس تركيزه السابق على سياسات الجينيالوجيا في
مشروع (رعاية الذات) وحيث تتعزز الفروق الفردية - البحث عن أنماط [وجود] مختلفة
قدر الإمكان - على حساب التضامن الاجتماعي والسياسي. ويعرف المجال الاجتماعي أو
الثقافي بأنه شيء يُفرض فرضا بدلا من أن يكون مجالا إيجابيا للتكوين الذاتي. فإذا
كان فوكو يريد لأخلاقياته أن تكون ذات بعد اجتماعي وسياسي جوهري، فإنه ليس من
الواضح كيف ومتى يؤدي التكوين الذاتي إلى التنافس الاجتماعي ولا لماذا لن تقود
رعاية الذات في ثقافتنا الحالية التي تهيمن عليها الصناعات العلاجية والإعلامية – إلى
امتصاص الذات النرجسي والانسحاب من تعقيدات وتقلبات الحياة الاجتماعية والسياسية.
نحن لا نقول بأي فصل كاذب بين الأخلاق والسياسة لأن النضال ضد الأرخبيل التأديبي
في كل واحد منا هو عمل سياسي مهم، وبهذا الطرح فإنه يمكن اعتبار الأخلاقيات
امتدادا لاهتمامات فوكو السابقة بالسياسات المايكرووية. لكن هذا النضال يجب أن
يوضع في سياق اجتماعي وسياسي أكبر لا يشير إليه فوكو ولا يحدده؛ وينبغي أن يستكمل
التركيز على الأخلاقيات الشخصية بأخلاقيات اجتماعية يفتقر إليها تنظير فوكو.
في
حين أن فوكو قد طور منظورا جديدا مثيرا للاهتمام يتغلب على بعض مشاكل مرحلته الجينيالوجية،
مثل التحدث عن المقاومة السياسية من جهة ورفض فئة الذات من جهة أخرى، إلا أنه يخلق
لنفسه مجموعة جديدة من المشاكل. على وجه الخصوص، نجد أنه لا يمهد بشكل كاف للتحول
من تكنولوجيات الهيمنة إلى تكنولوجيات الذات ويخفق في توضيح الصلات بين الأخلاق
وعلم الجمال والسياسة. ولذلك فإنه لم ينجز مهمته "لإظهار التفاعل بين هذين
النوعين من الذات، بين الذات التي تشكَل والذات التي تُشكِل. وهكذا، فإنه يترك دون
تنظير مشكلة كيفية ازدهار تقنيات الذات في عصرنا الحالي الذي، كما يدعي، مشبعا
بعلاقات السلطة. ومحاولاته الرامية إلى وضع التحولات الخطابية في إطار اجتماعي
وتاريخي لا تزال غامضة ومثيرة للمشاكل (على سبيل المثال محاولته "شرح"
القوى الاجتماعية والسياسية وراء الرعاية الرومانية للنفس). وعلاوة على ذلك، لاحظت
ماريا داراكي، أن هناك نزوحا عرضيا بين السياسة والديمقراطية في دراسة فوكو
لليونانيين، كما أن تركيزه فقط على الجنسانية وتقنيات التكوين الذاتي بدلا من
الممارسات اليونانية للحكم الذاتي الديمقراطي. ويؤكد فوكو أن التحكم بالذات أمر
ضروري للتحكم بالآخرين، ولكنه لا يناقش في أي مكان تكوين الذات من خلال الممارسات
الاجتماعية الديمقراطية. ويشير هذا الإغفال إلى تجاهل الديمقراطية، وهي كلمة نادرا
ما يوظفها، مما يشير إلى انحيازه للسياسة اللا مركزية ونزعاته الفردية، لأن
الديمقراطية هي مشروع مكون اجتماعيا. يقلل فوكو من أهمية زوال دولة المدينة city state في
الانتقال من اليونان إلى روما، وكأن اختفاء الديمقراطية لم يكن عاملا رئيسيا في
"الانسحاب إلى الذات" في روما، التي يعرضها فوكو نفسه بوصفها سمة أساسية
من سمات العصر. إن رفض فوكو المستمر تحديد صيغ بديلة للذاتية والتنظيم الاجتماعي
غير تلك التي راجت في الحداثة، ووضع وجهة نظر معيارية ينتقد من خلالها الهيمنة
وييبرز أشكالا بديلة من التنظيم الاجتماعي والفردي يقوض الأهمية النقدية في عمله.
وفي نقده لمساعي فوكو البحثية، يقول كيث غاندال إن فوكو يقاوم تحديد قيمه
ومعتقداته المعيارية لا لأنه يخشى اعادة إنتاج السلطة، ولكن لأنه كان مهتما بشكل
صارم بالتوظيفات الاستراتيجية لأفكاره بدلا من مبرراتها. وفي حين أن غاندال يقدم
وصفا واضحا لسياسة فوكو، يفشل المبررون في إدراك أن رفض فوكو تحديد التزاماته
المعيارية، أيا كانت الفعالية العملية لمواقفه، يجبره على صياغات غامضة، حين يمنعه،
على سبيل المثال، من توضيح من أين يجب أن تكون حريتنا وإلى أين.
تعليقات
إرسال تعليق