عن (الكلمات والأشياء) و مأزق الابستيمة الحداثية.

عن (الكلمات والأشياء) و مأزق الابستيمة الحداثية.
أماني أبو رحمة
      ربما يعد كتاب (Les mots et les choses ) الذي تسبب في شهرة فوكو وترجم إلى الانجليزية بعنوان يقترب من (نظام الأشياء) وإلى العربية بعنوان (الكلمات والاشياء) اقحاما متفردا في مسيرة فوكو الفكرية حتى تاريخه. فعنوان الكتاب الفرعي(أركيولوجيا العلوم الإنسانية) يقترح توسيع التأريخ النقدي الذي بدأه فوكو منذ أوائل الستينيات لعلم النفس والطب الاكلينيكي ليشمل مجالات حداثية أخرى مثل الاقتصاد والبيولوجيا وفقه اللغة. والواقع أن هناك وصفا واسعا لمختلف "التخصصات التجريبية" في عصر النهضة والعصرالكلاسيكي التي تسبق هذه العلوم الإنسانية الحداثية. ولكن هناك القليل أو لا شيء من النقد الاجتماعي الضمني الموجود في تاريخ الجنون أو حتى ولادة العيادة. وبدلا من ذلك، يقدم فوكو تحليلا عالميا لما تعنيه المعرفةـــــــ  وكيف تغير هذا المعنى ــــــ في الفكر الغربي من عصر النهضة حتى الوقت الحاضر. يقع مفهوم التمثيل (التمثل) representation في قلب طروحاته في الكتاب. وسأركز هنا على معالجته للتمثيل في الفكر الفلسفي، حيث نجد مشاركة فوكو الأكثر مباشرة مع الأسئلة الفلسفية التقليدية.
      يقول فوكو إنه منذ ديكارت حتى كانط  (الحقبة التي يسميها فوكو الكلاسيكية) كان التمثيل متماهيا مع الفكر: أن تفكر يعني أن توظف الأفكار لتمثيل كائن أو موضوع الفكر. ولكن هذا، كما يقول، ليس نوعا من التشابه resemblance: لا يوجد سمات أو خصائص للفكرة تشكل بذاتها تمثيل الموضوع. ولكن ذلك لا يعني أيضا أن الفكرة ذاتها ليست بلا خصائص أو حتى أن تلك الخصائص والسمات لا تمت بصلة لفكرة تمثيل الموضوع. وبالمقابل كان التشابة وتحقيق سماته بين العلامات هو الشغل الشاغل لعصر النهضة.
      تعد الخارطة على سبيل المثال نموذجا مفيدا للتمثيل الكلاسيكي. تتكون الخارطة من خطوط بأطوال وأسماك وألوان مختلفة تمثل الطرق في/ وحول المدينة. ليس لأن للطرق خصائص الخطوط على الخارطة، وإنما لأن البناء التجريدي المعطى في الخريطة يكرر البناء التجريدي للطرق.
      في قلب الفكر الكلاسيكي مبدأ أننا نعرف بحكم أن لدينا افكار تمثل ما نعرفه. وبطبيعة الحال، وعلى النقيض من الخارطة، نحن لسنا بحاجة إلى معرفة ما هي الميزات والسمات الفعلية لأفكارنا التي بفضلها أصبحت هذه الأفكار قادرة على التمثيل (بمصطلحات ديكارت، نحن لسنا بحاجة إلى معرفة "حقيقتها الشكلية أو الرسمية formal reality "). نحن بحاجة إلى أن نعرف فقط البنية المجردة التي تتشاركها مع الأشياء التي تمثلها  (البنية التي يسميها ديكارت "حقيقتها الموضوعية"). ومع ذلك، فان هناك إمكانية الوصول المباشر (الاستباقي) إلى البنى المجردة لأفكارنا: يمكننا "رؤية" ما هي البنية التمثيلية التي تمتلكها الأفكار. وعلاوة على ذلك، يمكننا تغيير بنية الفكرة من أجل تمثيل أفضل للكائن، تماما كما يمكننا تغيير الخارطة لتحسينها. كيف يمكننا، من وجهة النظر الكلاسيكية، أن نعرف أن الفكرة هي تمثيل للكائن أو الموضوع، وأنها تمثيل كاف أيضا ؟ ليس من خلال مقارنة الفكرة مع الكائن كما هو بصرف النظر عن التمثيل. هذا أمر مستحيل لأنه يتطلب معرفة الكائن دون تمثيل (في حين أن الفكر الكلاسيكي يقوم على مبدأ أن نعرف يعني أن نتمثل). والإمكانية الوحيدة هي أن الفكرة نفسها يجب أن تجعل من الواضح أنها تمثيل. الفكرة تمثل حقيقة أنها تمثيل. إذا، فيما يتعلق بمسألة ما إذا كانت الفكرة عبارة عن تمثيل، فإن هذه الميزة "المرجعية الذاتية" هي كل ما في الأمر. أما فيما يتعلق بالكفاية، فيجب أن تكون بعض مجموعات الأفكار نفسها شاهدا على كفاءتها الخاصة، على سبيل المثال، "تصورات ديكارت الواضحة والمتميزة" أو (انطباعات) هيوم البسيطة. وبهذا المعنى، يجب أن تستند الفلسفة الحداثية المبكرة دائما إلى "الحدس" (الفكري أو الحسي). ومع ذلك، علينا أن  نلاحظ أن "حدس" كفاية الفكرة لا ينشئ في حد ذاته الوجود المستقل للمموضوع الذي تمثله الفكرة. وفيما يتعلق بالمنظور الحداثي، قد لا يكون هناك مثل هذه الأشياء؛ أو، إذا كان هناك، يجب أن يتم ذلك من خلال بعض الوسائل الأخرى (على سبيل المثال، حجة أو نوع آخر من الحدس). نحن نرى، إذن، أن فوكو  يجعل مفتاح المعرفة الكلاسيكية هو الفكرة، أي التمثيل العقلي. يمكن للمفكرين الكلاسيكيين أن يختلفوا حول الوضع الأنطولوجي الفعلي للأفكار (واقعها الرسمي)، ولكنهم يتفقون على أن الأفكار "غير مادية" و "غير تاريخية"، أي أنها تمثيل (إبيستيمولوجي، إن لم يكن أنطولوجي)؛ ولأنها تمثل موضوعاتها على وجه التحديد ، فإنه لا يمكن تصور أن لها أي دور في الشبكات السببية للعالم الطبيعي أو الإنسان. يتبع ذلك أن اللغةــــ  كحقيقة مادية و / أو تاريخية - لا يمكن أن يكون لها دور أساسي في المعرفة. فاللغة لا يمكن أن تكون أكثر من مجرد أداة فكر أعلى: التمثيل المادي للأفكار، وليس لها معنى إلا فيما يتعلق بهذه الأفكار.
      ويؤكد فوكو أن "التحول" الكبير في الفلسفة الحداثية حدث مع كانط عندما أصبح من الممكن طرح مسألة ما إذا كانت الأفكار تمثل في الواقع مواضيعها وأشياؤها، وإذا كان الأمر كذلك، كيف تفعل ذلك. وبعبارة أخرى، لم تعد الأفكار تؤخذ على أنها مركبات المعرفة غير المشكوك فيها؛ فمن الممكن الآن أن نفهم أن المعرفة قد تكون (أو أن لها جذورا)  شيئاً آخرا غير التمثيل. وهذا لا يعني أن التمثيل لا علاقة له بالمعرفة على الإطلاق. ولعل بعض (أو حتى كل) المعرفة لا تزال تنطوي أساسا على أفكار "تمثل" أشياء. ولكن فوكو يصر على أن الفكر الممكن الآن (مع كانط) هو أن التمثيل نفسه (والأفكار التي تُمثِل) يمكن أن يكون لها أصل في شيء آخر.
      قاد هذا الفكر، وفقا لفوكو، إلى بعض الإمكانيات الهامة والمميزة بشكل خاص. فالإمكانية الأولى هي التي وضعها كانط نفسه، الذي اعتقد أن التمثيل (الأفكار ) هي نفسها نتاج العقل، بمعنى أن العقل هو الذي يشكلها. ليس أنها تُنتج في العقل كحقائق طبيعية أو تاريخية، ولكن من حيث أنها تنتمي إلى عالم ابستمولوجي خاص: الذاتية المتعالية. وهكذا حافظ كانط على الإصرار الكلاسيكي على أن المعرفة لا يمكن فهمها بوصفها حقيقة مادية أو تاريخية، لكنه وضع أسس المعرفة في مجال أكثر جوهرية من الأفكار التي تضمها؛ المجال المتعالي. والمنظور الآخر الذي يعد نموذجا حداثيا بصورة أوضح من الأول، هو أن الأفكار حقائق تاريخية بحد ذاتها. وقد أمكن تطوير هذا المنظور بشكل معقول من خلال جعل الأفكار مرتبطة أساسا باللغة (كما عند هيردر، على سبيل المثال)، التي تعتبر الآن وسيلة أساسية (وتاريخية) للمعرفة. ولكن هذا النهج لم يكن قابلا للتطبيق في شكله النقي، لأن جعل المعرفة تاريخية تماما من شأنه أن يحرمها من أي طابع معياري، وبالتالي تدمير خصائصها كمعرفة. وبعبارة أخرى، حتى عندما يجعل الفكر الحديث المعرفة تاريخية، يجب أن يحتفظ ببعض المعادل الوظيفي لمجال كانط المتعالي لضمان الموثوقية المعيارية للمعرفة. عند هذه النقطة، يقدم (الكلمات والاشياء) سمتان هامتان تطورتا بعد كانط: عودة اللغة و(ولادة الإنسان). أصبح للغة دور مستقل وأساسي لم يتوفر لها عندما كانت مجردة أداة للأفكار الكلاسيكية. ولكن العودة للغة ليست ظاهرة متجانسة. ترتبط اللغة بالمعرفة بطرق متنوعة، يتوافق كل منها مع نوع مميز من "العودة". لذلك، على سبيل المثال، أدخل تاريخ اللغات الطبيعية الاضطرابات والتشويهات التي نحاول القضاء عليها من خلال تقنيات إضفاء الطابع الرسمي(الشكلي) formalization.
      من ناحية أخرى، قد يكون هذا التاريخ نفسه قد أودع حقائق أساسية في لغاتنا لا يمكن أن نكتشفها إلا من خلال أساليب التفسير الهيرمنيوطيقي. ولكن هناك إمكانية أخرى: يمكن معالجة اللغة (كما في عصر النهضة) كحقيقة مستقلة بتحريرها من تبعيتها للأفكار، بل في الواقع مستقلة بصورة أكثر عمقا من لغة عصر النهضة، لأنه لا يوجد نظام تشابه يلزمها بالعالم. بهذا المعنى، فإن اللغة هي الحقيقة في حد ذاتها، لا تقول شيئا سوى معناها الخاص. هذا هو مجال "الأدب الخالص"، الذي أثاره مالارمي عندما أجاب على سؤال نيتشه (الجينيالوجي)، "من يتحدث؟" ب "اللغة نفسها". ومع ذلك وعلى النقيض من عصر النهضة، لا يوجد أي كلمة مقدسة كامنة تمنح الحقيقة الفريدة لكلمات اللغة. الأدب هو حرفيا لا شيء سوى اللغة، أو العديد من اللغات تتحدث لذاتها وعن ذاتها.
     الأهم من اللغة هو رمزية الإنسان. أهم نقطة عن "الإنسان" هو أنه مفهوم إبستمولوجي. الانسان، يقول فوكو، لم يكن موجودا خلال العصر الكلاسيكي (أو قبل). ليس لأنه لم تكن هناك فكرة عن البشر كأنواع أو من الطبيعة البشرية كمفهوم نفسي أو أخلاقي أو سياسي، ولكن، بدلا من ذلك، "لم يكن هناك الوعي الابستمولوجي عن الانسان على هذا النحو". ولكن حتى "الابستمولوجي " يحتاج إلى توضيح. ليس هناك شك في أنه حتى في العصر الكلاسيكي تم تصور البشر كمكان للمعرفة (أي البشر الذين يمتلكون الأفكار التي تمثل العالم). ومن ناحية أخرى، فإن الإنسان هو مفهوم إبستمولوجي بالمعنى الكانطي عن الذات المتعالية الذي هو أيضا كائن تجريبي. في العصر الكلاسيكي، كان البشر موضع التمثيلات ولكن ليس، كما عند كانط، مصدرها. هناك، في الفكر الكلاسيكي، لا مكان للمفهوم الحديث "التكوين أو التشكيل constitution" ".
      ويوضح فوكو وجهة نظره من خلال مناقشة "كوجيتو" ديكارت، وتوضيح لماذا كان موثوقا بما لا يقبل النقاش في الإبيستيمة الكلاسيكية، ولكن ليس الحداثية. هناك طريقتان للتشكيك في قوة الكوجيتو. الأولى هي أن نقترح أن الذات (ذات تفكير، الأنا ) التي يخلص ديكارت إلى أنها موجودة هي شيء أكثر من مجرد فعل تمثيل الكائنات. لذلك لا يمكننا الانتقال من التمثيل إلى المفكر. ولكن في العصر الكلاسيكي هذا لا معنى له، لأن التفكير هو التمثيل. وهناك انتقاد ثان هو أن الذات كممثل يقوم بفعل التمثل representer قد لا تكون "حقيقية حقا" وإنما مجرد "نتاج" العقل الحقيقي في معنى أكمل. ولكن هذا الاعتراض له وزن فقط إذا كنا نستطيع التفكير في هذا العقل "الأكثر واقعية" بوصفه يأخذ الذات ككائن أو موضوع بمعنى آخر غير تمثيلها. (خلاف ذلك، لا يوجد أساس للقول بأن الذات كممثل "أقل واقعية"). ولكن مرة أخرى، وهذا هو بالضبط ما لا يمكن التفكير فيه بالمصطلحات الكلاسيكية.
      في قلب الإنسان هو تناهيه ومحدوديته: حقيقة أنه، كما تقول العلوم التجريبية الحداثية، محدود من قبل القوى التاريخية المختلفة (العضوية والاقتصادية واللغوية) التي تعمل عليه. هذا التناهي هو مشكلة فلسفية لأن الكائن التجريبي المحدود تاريخيا يجب أيضا أن يكون بطريقة أو بأخرى مصدر التمثيلات التي نعرف بها العالم التجريبي، بما في ذلك أنفسنا ككائنات تجريبية. أنا (وعيي بذاتي )، كما يقول كانط ،  هو الكائن التجريبي للتمثيل والمصدر المتعالي للتمثيلات على حد سواء. كيف يكون هذا ممكنا؟ من وجهة نظر فوكو: لا يمكن. هذه الاستحالة  (المدركة تاريخيا) تعني انهيار الابستيمة الحداثية.
      ما يصفه فوكو ب "تحليل التناهي أو المحدودية The Analytic of Finitude " يسلط الضوء على الحالة التاريخية لهذا الاستنتاج، ويفحص الجهود الرئيسية (التي تشكل معا قلب الفلسفة الحداثية ) للإجابة على هذا السؤال. يعود السؤال - والاستراتيجية الأساسية للإجابة عليه - بطبيعة الحال إلى كانط، الذي طرح الفكرة الحاسمة التالية: العوامل التي تجعلنا محدودين (خضوعنا للمكان والزمان والسببية وغيرها) هي كذلك الشروط اللازمة لإمكانية المعرفة. تناهينا، تبعا لذلك، يُؤسِس ويُؤسَس (جوهري ووضعي تجريبي معا). ومشروع الحداثة (كانط وما بعده) ـــ تفكيك وتحليل التناهي والمحدودية ـــ هو عن كيف يكون ذلك ممكنا.
      تحاول الفلسفة الحداثية في سعيها لحل مشكلة الإنسان رد المتعالي إلى التجريبي. على سبيل المثال، يحاول الوضعيون التجريبيون  شرح المعرفة من حيث العلوم الطبيعية (الفيزياء، البيولوجيا)، في حين تناشد الماركسية العلوم الاجتماعية التاريخية. (الفرق هو أن الأولى تموضع المعرفة في الماضي - على سبيل المثال، التاريخ التطوري - في حين أن الثانية تموضعه في المستقبل الثوري الذي من شأنه أن يتجاوز حدود الأيديولوجيا).  يتجاهل كلا النهجين ببساطة شروط وتعقيد اشكالية أن الانسان يجب أن يعتبر تجريبيا وتجاوزيا متعاليا معا وعلى حد سواء بطريقة غير قابلة للاختزال.
      قد يبدو أن فينومينولوجيا هوسرل قد نفذت المشروع الكانطي لتوليف الإنسان ككائن والانسان كذات عن طريق تطريف المشروع الديكارتي. أي من خلال تأسيس معرفتنا للحقائق التجريبية في حقيقة الذات المتعالية. غير أن المشكلة هي أن المفهوم الحداثي للإنسان يستبعد فكرة ديكارت عن الكوجيتو بوصفه "شفافية سيادية" للوعي الخالص. الفكر لم يعد تمثيل نقي، وبالتالي لا يمكن فصله عن "اللاـــــ فكر" (أي الحقائق التجريبية والتاريخية حول من نحن). لن نتمكن من الذهاب من "أنا أفكر" إلى "أنا أكون "، لأن محتوى حقيقتي (من أكون) دائما أكبر من محتوى أي ذات مفكرة محضة  (فأنا أعمل او أعيش أو أتحدث تأخذني أبعد من مجال الفكر المحض). أو ، إذا أردنا شرح هذه النقطة بعكسها، اذا وظفنا (أنا) للاشارة الى حقيقتي بوصفي ببساطة كائنا واعيا، فإن  (أنا ليس ) جزء كبير من أنا أكون  (كذات في العالم ). ونتيجة لذلك، وبقدر ما وضع هوسرل كل شيء في الذات المتعالية، فإن هذه الذات ليست (كوجيتو) ديكارت ولكن كوجيتو الحداثة، والتي تشمل (اللا- فكر) التجريبي والذي هو جزء من حقيقة الإنسان. الفينومينولوجيا مثل كل الفكر الحداثي، يجب أن تقبل اللا فكر باعتباره  (آخر) الانسان "غير" القابل للاستثناء. كما أن علماء االفينومينولوجيا الوجودية (سارتر وميرلو بونتي) غير قادرين على حل المشكلة. فهم على عكس هوسرل،  تجنبوا وضع الأنا المتعالية وركزوا على الواقع الملموس للإنسان في العالم. ولكن هذا، يدعي فوكو، هو مجرد وسيلة أكثر لطفا لرد المتعالي إلى التجريبي.
      وأخيرا، حاول بعض الفلاسفة (هيجل وماركس من جهة، ونيتشه وهيدجر من أخرى) حل مشكلة وضع الإنسان المزدوج بمعاملته كحقيقة تاريخية. ولكن هذه الخطوة تواجه صعوبة أن يكون الإنسان على حد سواء نتاج العمليات التاريخية وأصل التاريخ. إذا تعاملنا مع الإنسان كمنتج، نجد أنفسنا نختزل حقيقته إلى شيء غير إنساني (وهذا ما يطلق عليه فوكو "التراجع" عن أصل الإنسان). ولكن إذا ما أصرينا على "العودة" للإنسان كمصدره الخاص اللائق به، فلن يكون بإمكاننا بعد ذلك أن نعطي معنى لمكانه في العالم التجريبي. هذه المفارقة قد تفسر الهوس الحداثي الذي لا نهاية له بالأصول، ولكن ليس هناك أي وسيلة للخروج من التناقض بين الإنسان المنشئ والمنشأ. ومع ذلك، يعتقد فوكو أن السعي الحداثي لاستجواب الأصول وفر لنا إحساسا أعمق بالأهمية الأنطولوجية للزمن، ولا سيما في فكر نيتشه وهيدجر، اللذين رفضا وجهة نظر هيجل وماركس بالعودة إلى أصلنا بوصفه امتلاء استباقيا بالوجود، بسبب أنها مواجهة مع  (لاـ شيئة) وجودنا.

      قدم فوكو (الكلمات والاشياء) بوصفه مقاربة أركيولوجية لتاريخ الفكر. وبعد ثلاث سنوات، أي في عام 1969، نشر فوكو كتاب (اركيولوجيا المعرفة)، الذي يعد  بمثابة اتفاقية  تعرض صياغته للمنهج الذي وظفه ليس فقط في (الكلمات والاشياء) وإنما، وإن بصورة أقل وضوحا، في (تاريخ الجنون) و(ولادة العيادة). حجر الاساس في المنهج الاركيولوجي هو أن نظام الفكر والمعرفة (الابستيم، أوالتشكيلات الخطابية بمصطلحات فوكو) تُحكم بقواعد، أبعد من قواعد اللغة والمنطق، وتعمل تحت وعي الذات وتحدد نظاما من الاحتمالات المفاهيمية تحدد بدورها حدود الفكر في مجال وفترة معينة.


      لذا يجب أن يقرأ تاريخ الجنون، على سبيل المثال، كما يقول فوكو، بوصفه تحليلا فكريا للتشكيلات الخطابية المختلفة جذريا التي تحكمت في الحديث والتفكير في الجنون من القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر. كانت الاركيولوجيا طريقة أساسية لفوكو لأنها تؤيد التأريخ الذي لا يتأسس على أولوية وعي الذوات الفردية؛ وتسمح لمؤرخ الفكر بالعمل على مستوى اللاوعي الذي يزيح أولوية الذات الموجودة في كل من الفينومينولوجيا والتأريخي التقليدي. ومع ذلك، اقتصرت القوة النقدية للأركيولوجيا على المقارنة بين التشكيلات الخطابية المختلفة من فترات مختلفة. ويمكن لهذه المقارنات أن تشير إلى احتمالية أو طارئية طريقة معينة للتفكير من خلال إظهار أن العصور السابقة قد فكرت بشكل مختلف جدا (وعلى ما يبدو، بقدر الفعالية). ولكن مجرد التحليل الأركيولوجي لا يمكن أن يقول شيئا عن أسباب الانتقال من طريقة تفكير إلى أخرى، وكان عليه أن يتجاهل ربما أكثر الحالات قوة لطارئية المواقف المعاصرة الراسخة. لكل ذلك استهدفت الجينيالوجيا، الطريقة الجديدة التي أعلن عنها فوكو لأول مرة في المراقبة والمعاقبة، علاج هذا النقص.
____

** المرجع الرئيس للدراسة  : هوبيرت دريفوس وبول رابينو في  ( ميشيل فوكو:أبعد من البنيوية والهيرمنيوطيقا) .

تعليقات

المشاركات الشائعة