ما بعد الحداثة: الغرس والحصاد.

أماني أبو رحمة.
استبدلت الحقيقة او الواقع من قبل أعلام ما بعد الحداثة بتركيبات لغوية اجتماعية شخصية وغير قابلة للقياس، تتغير تبعا للجماعات المتصارعة،استنادا إلى أبعاد مثل الجنس والاثنية والعرق والدين والثروة. فأخذت تنظر ما بعد الحداثة إلى لغة ومنطق كل مجموعة نظرة وظيفية توافق نظامها الداخلي التقليدي , وتزعم بأنه لا علاقة للغة بالواقع غير اللغوي, وأن الكلمات يمكن ان توظف بوصفها أسلحة بلاغية في معركة الإرادات المتنافسة التي تنطوي على تأكيد قسري لمصالح كل مجموعة. ويمكن لجميع الكلمات والمفاهيم والمزاعم ان تُفكك في عملية لا نهاية لها، تتنافس فيها كل مجموعة من الجنس البشري مهما كانت صغيرة لكسب سلطة اجتماعية.
ويمتلك التفكيك تأثيرا تدميرا على معنى وقيمة كل مزاعم الحقيقة والواقع، إذ ينظر الما بعد حداثيين إلى العقل بوصفه غير موضوعي وغير قادر على معرفة الحقيقة , لذلك فإنهم لا يعبئون بالحقيقة او الاتساق ولا يهتمون بوجود متناقضات منطقية.
الحقيقة ـ تبعا لما بعد الحداثة ـ هي تركيب اجتماعي تعددي. وتحتفي ما بعد الحداثة بتكذيب القصص الكبرى او ما وراء السرديات في عدد لا يحصى من المجالات مثل: النقد الأدبي والنظرية السياسية، والموسيقى، والعمارة، وما إلى ذلك. وتزدري ما بعد الحداثة الأفكار الحداثية عن العقلانية، والتقدم الخطي، والطريقة الواحدة الحقيقية في تنفيذ الأفعال. اكتشف ما بعد الحداثيين وجود خلل في نظام الفكر الذي يحاول تفسير العالم، وقوانينه الاجتماعية والطبيعية، وأخلاقياته الحقيقية، ومسار التاريخ، وطبيعة الإنسان، والمعايير العالمية التي تنطبق على جميع الناس في كل زمان و مكان.
وعلى هذا الاساس فان ما بعد الحداثة تدور حول المواضيع التالية:
1- أن الوصول إلى حقيقة عالمية ثابتة ضربا من المستحيل
2- لا توجد أفكار أو حقائق سامية ومتعالية
3- وان جميع الأفكار هي بُنى تركيبية ثقافيا أو اجتماعيا
4- وان الحقائق التاريخية غير مهمة وغير ذات صلة
5- وان الأفكار الصحيحة لا تكون صحيحة إلا إذا كانت في مصلحة المظلومين.
وضعت ما بعد الحداثة نهاية للميتافيزيقيات والوجودية والابستومولوجيا والأخلاقيات لان مثل هذا النوع من الدراسات تفترض حقيقة ثابتة وكونية. تتنكر ما بعد الحداثة للتجاوز والتعالي الإلهي. وحين تتحدث عن اله فإنها تشير على العموم إلى آلهة في إطار مبدأ الكمون والحلول Immanence الذي يقول بأن الإله والكون كيان (جوهر) واحد، وحينما يُقال إن ((قوانين الكون كامنة فيه)) فهذا ‏يعني أن من يريد أن يفهم هذا الكون عليه أن يدرس‎ ‎القوانين الكامنة فيه ولا يتجاوزها. ومبدأ الكمون هو القول بأن (الكل داخل الكل) والقول بأن عناصر الوجود تتضمن بعضها بعضاً وهو عكس‎ ‎التجاوز والتعالي.لقد هيئت عقلية ما بعد الحداثة تربة خصبة لعهد جديد من الحركات الدينية.
 تُنكر ما بعد الحداثة معرفة أي شيء سواها على الرغم من أن أنصارها يزعمون انفتاحا على كل الأفكار. ومن المفارقات ان نتيجة هذا الانفتاح الاقصائي ـ ان جاز التعبير ـ فلسفة استبدلت الحقائق المتفق عليها عالميا بالحقائق المحلية والنتيجة هي تقسيم الناس تبعا للعرق ,او النوع الاجتماعي, أو المحلية , مما أدى إلى تعصب يرتدي ثوب العرق او الجنس او القومية , الظاهرة التي أطلق عليها البعض العصبية القبلية الجديدة. فعندما تختلف حقائق البشر تبعا للاختلافات بينهم، فإننا لن نستطيع تجاوز هذه الاختلافات أبدا والنتيجة مزيدا من التشظي والتمحور حول الذات.
يتفق ما بعد الحداثيين على رفض الحقائق العالمية. ولذا فانهم يبالغون في مغادرة القواسم المشتركة لصالح الانضمام إلى التشظيات المختلفة من أجل إبراز مواقف مغالية في التطرف. ويحاول التفكيكيون تفكيك المنطق الذي يوظفه نظام فكري معين للحفاظ على تماسكه.ويدّعون أن الكلمات ليست كافية لتحديد حقيقة ما. ويزعمون أن اللغة، ولا سيما المكتوبة، تتوسط بين القارئ والأفكار. ويعتقد ما بعد الحداثيين ان الناس يحكون القصص في محاولة منهم لتفسير العالم. ولكن أيا من هذه القصص ليست حقيقية.فهي مجرد تمثيلات للواقع استنادا إلى معلومات ناقصة وغير دقيقة. صحيح أن هناك حقائق مبنية اجتماعيا، وهناك نظم عقائدية وقصص كثيرة تحاول تفسير العالم , إلا أن الناس هم من يركب القصص من المعلومات التي بين أيديهم فحسب , ويتوافق ذلك مع فكرة التحول في النموذج المعياري (Paradigm shift) وهو مفهوم أتى به توماس كونز- ويعني حدوث تغيّر جوهري وثوري في النموذج المعياري على مستوى المجتمع ( أو العالم طبعاً) لصالح نموذج جديد فيتراجع الأول أو يسقط بينما يصعد الثاني ويسود.
 تتجلى ما بعد الحداثة في الشواهد التالية:
1- في حين يعتقد بعض العلماء أنه لا يوجد نفس واحدة ثابتة، ولكن النفس هي واقع مركب اجتماعيا ومتغير باستمرار. يؤكد آخرون الآن على أن واحدة من وظائف الدماغ هو حكي القصص ـ حتى مع وجود حقائق محدودة، وبدون توظيف المنطق ـ في محاولة لفهم العالم.
2- يعتقد كثيرون أن النقد الأدبي يحاول إيجاد معنى في تجربة القارئ تستند إلى أن القارئ هو من يخلق حقيقة الكتاب. وفي المقابل، لا ترى التفكيكية الأدبية إمكانية تمثيل أي شيء بالكلمات.
3- يميل ما بعد الحداثيين إلى النظر إلى العالم بوصفه مسرحا وجميعنا أبواق دعاية متنافسة. فعلى سبيل المثال، يحاول الزعماء السياسيين توظيف سائل الإعلام لحكي قصصهم وحمل الناس على تصديقها و في القانون يرفض كثير من القانونيين فكرة المبادئ القانونية الدائمة, ويوظف علم النفس طريقة لعلاج الناس تنطوي على خلق قصة حياة جديدة بالنسبة لهم.
4- يرى ما بعد الحداثيين ان كل شيء هو مجرد مظهر منظوري perspectival appearance, كما انه لا توجد طريقة ثابتة لتبَصُّر المعنى اللغوي. ويترتب على ذلك ان تحليل الأعمال الأدبية من قبل النقاد، لا تقارب ما يقصده الكاتب أصلا، بل ما يفسره القارئ. وفي الوقت الذي تقتنع فيه ما بعد الحداثة باستحالة معرفة قصد الكاتب الحقيقي, إلا إنها تؤكد ان لكلمات الكاتب تأثير قمعي وسلطوي. الأمر الذي يفسر نبذ ما بعد الحداثة للاتفاقيات الأدبية جملة وتفصيلا.
ان الحقيقة الموضوعية القابلة للتحقيق قد فقدت مصداقيتها بوصفها أسطورة، لذا لم يعد هناك ثقة في إمكانية الوصول إلى الحقيقة بوساطة العقل، ويرى التفكيكيون أن نتاج العقل هو ببساطة موت القصص الكبرى أو ما وراء السرديات (أي محاولة السيطرة على القيم الاجتماعية). وأصبح الأدب واللغة وسيلة لترويج أفكار كل مجموعة عن الكون والحياة. لقد أصبحا وسيلة لفرض أيديولوجية معينة هدفها استغلال الآخرين.
 اعتقد البنيويون بفكرة أننا لا نستطيع أن نعرف الحقيقة الموضوعية عالميا، ولكنهم أكدوا أننا نتمكن من بنائها أو تحديدها بأي طريقة نختار. أما البراغماتيون فقد رأوا أن عدم وجود حقائق عالمية هو سبب كاف للانكفاء نحو المحلية الخاصة وبمعنى آخر فانه يجب على الناس التعامل مع المعتقدات والمفاهيم التي يعرفونها والتي تتوافق مع ثقافاتهم المحلية الخاصة.
حاول نقاد التفكيكية تفسير كيف ان الإعلام والمفردات اللغوية التي توظف لتمثيل فكرة ما قد فشلت في توصيل المعنى ذاته لجميع الناس وبما ان فكرة المؤلف فقدت دلالاتها فانه لم يعد هناك حاجة لتحديد المعنى الذي كان متضمنا في السياق الأصلي. و بدلا من ذلك، أصبح سياق القارئ بالغ الأهمية.
 يعيد ما بعد الحداثيين تعريف أنفسهم باستمرار ويبحثون عن معان جديدة. إنهم مكتشفو المشاكل كما أنهم واضعي الحلول في الوقت نفسه. لذا فانهم يميلون إلى اختزال الحياة (و لاسيما القضايا السياسية والاجتماعية) في جملة مشاكل وحلول. كما أنهم يرغبون في الانخراط في عمليات تفكير غير مسبوقة، ويستهينون بالمعرفة التي تطورت بشكل منتظم عبر العصور.
 تجسد ما بعد الحداثة أكثر الظروف إيلاما وإيذاء فيما يتعلق بحاضر المجتمع المعاصر ومستقبله والتي لاحظها آين راند. يقول راند: (( كان هناك تآكل مستمر في المذهب الذي تأسست عليه الولايات المتحدة الأمريكية بما في ذلك أفكار مثل: (1) أن العالم المادي هو مجال طبيعي، واضح , ومنظم، مفتوح على العقل البشري (2) وأن عقل الإنسان المنطقي قادر على الوصول إلى معرفة حقيقة واقعية. في مقابل هذه الأفكار تزعم ما بعد الحداثة: (1) أن العقل عاجز وعقيم و (2) العالم مجهول، و عارض، وبلا أساس, وغير مستقر، وغير محدد. ونتيجة لذلك، كانت هناك محاولات يائسةـ باءت بالفشل من وجهة نظر ما بعد الحداثة ـ لتثقيف، وإقناع، وتحويل الأفراد إلى مناصرين للعقل والمنطق، وعرض مشهد قائم على الحقيقة بالنسبة للإنسان والعالم))
يمكن القول ان نتائج ما بعد الحداثة كانت كارثية على أكثر من صعيد، فمن المفارقات انه على الرغم من احتفاء ما بعد الحداثة العالي بالانفتاح والتعددية والاختلاف , إلا أن ما بعد الحداثيين لا يتمتعون بالتسامح أو مراعاة التعددية الفكرية والثقافية، لا سيما إذا ما تعلق الأمر بالأديان والغيبيات.
أطلق ما بعد الحداثيين على المتدينين صفات مثل الشموليين او المستبدين كما عملوا على فرض شفرة سلوكية صارمة على أتباعهم وتلاميذهم، فضلا عن مواجهتهم بتهم من قبيل تقيد الحرية الأكاديمية لصالح السياسة على سبيل المثال في كثير من الجامعات ومراكز الأبحاث. لا تفكر ما بعد الحداثة بطريقة منهجية ولذا لن يدهشنا أنها تتحمل أفكار متناقضة ومتضاربة. يضرب جين ادوارد فيث في كتابة ( أوقات ما بعد الحداثة: دليل المسيحية نحو فكر وثقافة معاصرة ) مثالا عن شخص يتمسك بأهداب العقيدة البروتستانتية الإصلاحية وبتناسخ الأرواح في الآن نفسه. وهكذا يتبنى ما بعد الحداثيين قضايا إشكالية حيث الحقائق غائبة بالكامل او متناقضة مع استنتاجاتهم.
تميزت ما بعد الحداثة بالعدائية تجاه العلوم الحداثية بل أنها تشعر باستياء عميق لفرض وتطفل العلوم الحداثية. وفي الواقع لقد روعت ما بعد الحداثة العلوم الحداثية حين مهدت لعهد جديد من الخرافات والمعتقدات الجديدة مثل الطب الشعبي وخلافه.
تنادي ما بعد الحداثة بتحقيق العدالة للجماعات التي كانت ضحايا كوارث او نزاعات او إبادة جماعية ولكن الدعوة إلى العدالة تفترض معيارا للصواب والخطأ. تتخذ ما بعد الحداثة موقفا معاديا للمعايير التقليدية ـ خصوصا ذات الاساس الديني ـ بدعوى أنها تدعي تمثيل الحقيقة المطلقة , إلا أنها استبدلها بمطلقات جديدة تسعى جاهدة لتطبيقها على جميع البشر. كانت نتيجة تلك النسبية المتضاربة ازدياد العنف والفوضى وكان الجميع ضحايا ـ باستثناء الرجل الأبيض ـ لشرور ما بعد الحداثة التي تمثلت في:
1- التعصب أو التمييز الجنسي Sexism الذي يفترض ان جنسا اقل قيمة وأدنى منزلة وقد نُحت هذا المصطلح في منتصف عشرينيات القرن الماضي, ولكن ما بعد الحداثة التي تبنته ذهبت به إلى أقصاه حين اقترحت أنواعا اجتماعية أخرى غير الذكر, والأنثى, والعرقية.
2- التمييز على أساس النوع البيولوجي Speciesism وهو مصطلح نحته السيكولوجي البريطاني ريتشارد رايدر عام 1973 للإشارة إلى الإجحاف الذي يلحقه البشر بالأنواع البيولوجية الأخرى، وفي حقبة ما بعد الحداثة قرأنا عن مقالات تطالب بحقوق البكتريا !!.
3-  القومية التي تدعى فيها قومية ما السيادة على قوميات أخرى.
4-  التعصب الديني الأعمى الذي تمثل في ادعاء المسيحية أنها الأنسب لجميع البشر.
يمكن القول بأن احتفاء ما بعد الحداثة بموت القصص الكبرى او ما وراء السرديات وادعائها المفارقي بان الحقيقة العالمية الوحيدة هي أنه لا توجد حقيقة عالمية كان أعظم أساطيرها. ذلك ان البشرية لم تخضع في تاريخها الطويل لما وراء سردية واحدة كما هي اليوم , حين تهدد الرأسمالية العالمية بإقصاء كل سرد و كل معنى آخر ـ عدا سردياتها الخاصة ـ من حياة الإنسان. وفي حين أن التاريخ والتقاليد التي ربطت بين الناس والمجتمعات المحلية ومنحتهم إحساسا بالمعنى والانتماء أضحت محاصرة من كل الاتجاهات،فان نظام الاقتصاد العالمي غير الإنساني والذي لا هوادة فيه يجرف بقايا الكرامة الإنسانية والأمل لأولئك الذين تم نفيهم وإقصائهم واستغلاهم بالحروب والفساد وعدم المساواة المتزايدة التي يجرجرها النظام الاقتصادي العالمي في أذياله. هذا هو السياق الذي يجب علينا وضعه في أفكارنا إذا كنا نريد أن نسأل: لماذا ينجذب كثير من الناس إلى أشكال متعصبة ودوغمائية الدين.
كان الحادي عشر من سبتمبر نقطة مواجهة ما بعد الحداثة مع أعدائها. جاء اختيار المنفذين لهدفهم انتقائيا بدرجة عالية حين اختاروا رمزا يمثل هيمنة الغرب الاقتصادية، والعسكرية والسياسية بكل قيمها المعطوبة وتهتكها السياسي. فالتحول في المواقف الغربية من احترام التعددية التي تقضي بعدم التدخل والذي طالما احتفت به ما بعد الحداثة إلى العدائية المفرطة يجب أن يفهم في هذا السياق.
من الممكن أن نقول إنه منذ ذلك اليوم تجاوز الغرب حالة ما بعد الحداثة، وسيحدد ما سيقوم به لاحقا مستقبل البشرية بين العدمية والعنف والحرب بلا نهاية، أو بدايات جديدة مفعمة بالأمل والازدهار بين الشعوب جميعا وبينها، وبين البيئة الطبيعية التي تعيش فيها، وهي أمل البشرية الوحيد في الخلاص. تتطلب هذه الأخيرة اعتراف الغرب بمسؤولياته المرعبة عما آلت إليه الأمور نتيجة قيمه المتبجحة عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. وفي عصر الحرب بلا نهاية في أفغانستان والعراق وأماكن أخرى، من هنا كان التناقض بين احتجاجات (الجمهور) ولا مبالاة (القادة) هو تعبير صارخ عن انتهاك قيم ما بعد الحداثة من قبل منظريها وداعميها الأساسيين. وباختصار فان الديمقراطية الغربية باتت تحتضر.
 وفي هذا السياق فان المواجهة الأخيرة بين الدين والعلم هي ستار من الدخان لصرف اهتمامنا عن القضايا السياسية والفكرية الأكثر إلحاحا. إنها تتيح لأهل الفكر العلماني الاختباء وراء أسطورة التطرف الديني المضخمة ـ ان لم نقل المفبركة ـ التي تحجب عن أعين الجماهير حقيقة أن التفوق الغربي العالمي والوضع المميز لمجتمعاته يقوم ـ الآن أكثر من أي وقت مضى ـ على التواطؤ في الجرائم العالمية وإحداث الفوضى في كل مكان على وجهة الأرض.
لقد أظهر التاريخ أن الدين ليس دائما عدوا للحرية. بل أنه يمكن ان يكون حافزا قويا في سبيل الديمقراطية وحقوق الإنسان. وإذا كانت الأديان ـ غالباـ ما تجيز قتل الإنسان في سبيل الله، فإنها تحمل أيضا القدرة على غرس التفهم والتسامح في نفوس أتباعها في أحيان كثيرة. لقد تعالت الأصوات التي تدعو إلى الاستماع مجددا إلى الأديان والميتافيزيقيات وما وراء السرديات في غمرة الدفاع الصاخب العنيف عن الحرية. يقول مارتن لوثر كينغ: ((إذا لم يكن لديك شيء أنت على استعداد للموت من أجله، هل يمكن أن يكون لديك شيء يستحق أن تعيش من أجله؟)). لم تمنحنا ما بعد الحداثة شيئا للموت من أجله و لا شيء أيضا للحياة من أجله، ولكن يبدو أنها قدمت لنا الكثير للقتل من أجله.
منذ نهايات التسعينيات الماضية كان هناك شعورا عارما على المستوى الأكاديمي والشعبي بان ما بعد الحداثة قد أصبحت جزءا من الماضي. ومنذ ذلك الحين بدأت محاولات لتعريف الحقبة التالية , إلا ان أيا من المصطلحات التي وضعت لم يحظ بقبول أكاديمي او شعبي واسع النطاق , نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر مصطلح الأدائية performatism"" الذي نحته راؤول ايشلمان في العام 2000. بشر ايشلمان ـ ضمن أشياء هامة أخرى ـ بالانتقال من التشاؤمية الميتافيزيقية إلى التفاؤلية الميتافيزيقية. نقطة التوجيه الميتافيزيقية لم تعد الموت ووكلائه ( الفراغ , الغياب , وإفراغ الذات و العجز والاختلال الوظيفي ) ولكن بدلا من ذلك الحالات المختبرة نفسيا او المؤطرة تخيليا للسمو والارتقاء( البعث والنشور , العبور إلى النيرفانا, الحب , التطهير , الإشباع او طقوس الملأ , والتأليه والعبادة ). ومصطلح ما بعد الألفية post-millennialism والذي نحته المنظر الثقافي الأمريكي اريك غانس عام 2000 , والمصطلح الشعبي الإخلاص الجديد New sincerity الذي وظف لوصف الموسيقى والجماليات والسينما والنقد والشعر والفلسفة والفنون عموما التي تخالف الصيغ المميزة للتهكم والكلبية الما بعد حداثية. ونذكر أيضا مصطلح جيل ليبوفتسكي  الحداثة المفرطة hyper modernity , و مصطلح الحداثة المغايرة Altermodern للناقد الفني الفرنسي الشاب نيكولاس بوريو الذي طرح مشاركة عالمية في صياغة الحقبة المقبلة لا تستثني ثقافة او شعبا، بل تحتفي على وجه الخصوص بالثقافات الإفريقية والأسيوية. ومن هنا جاءت كلمة المغايرة Alter لتميز هذه المرحلة عن مرحل سيادة ثقافة الغرب الرأسمالي , وأيضا بوصفه نوعا من التجديد بعدما سئم العالم من البادئة post  التي لازمت ظواهر مرحلة ما بعد الحداثة , فضلا عن مصطلح الآن كيربي الحداثية الدجيتالية digimodernism.











تعليقات

المشاركات الشائعة